ما لا يقوله التاريخ

21 أكتوبر 2016
عاصم الباشا / سورية
+ الخط -

في عام 1941 دخلت قوّات التحالف سورية. كان في عداد تلك القوّات كتيبة من الجيش الإمبراطوري الأسترالي، وصادف أن كان والد الروائي الأسترالي ريتشارد فلاناغان ضابطاً من ضبّاط ذلك الجيش الذي جاء كي يخوض "حرباً صغيرة (وهي القتال ضدّ قوات فرنسا الفيشية المتعاونة مع النازية) في خضم حرب كبيرة".

يسجّل الروائي تلك الوقائع، في روايته "الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال". غير أنه لا يستعيد الحرب، ولا يبدو معنيّاً بوقائعها، بل بآثارها الكارثية على البشر. ما يلفت النظر، أو ما يعنينا هنا، هو تلك الصفحات الحزينة التي يكتبها الروائي وهو يستعيد، عبر ذاكرة دوريغو إيفانز (المرجّح أنه الصورة الروائية لوالده)، آثار تلك الحرب على الناس الأبرياء الآمنين من السوريّين. سنقرأ في صفحات الرواية: "كانت القوة تشقّ طريقها عبر الممّرات الجبلية، والقرى المدمّرة. يمرّون فوق الجثث المتفسّخة، والجدران نصف المتداعية، نصف المنتصبة".

سنقرأ أيضاً أن ما بقي في ذاكرته من تلك اللحظات هي الرائحة: "رائحة زيتون منسكب، ورائحة حصان نافق، وكراسٍ محطمة، ومناضد مهشّمة. رائحة الأسرَّة، ورائحة سقوف بيوت منهارة تمتزج كلها برائحة حيّة لبشر كانوا في محنة".

هؤلاء هم السوريون الذين لا شأن لهم بتلك الحرب: "كانت هناك جثث خمسة عشر قتيلاً في قرية لا يتجاوز عدد بيوتها سبعة، حاولوا أن ينجوا من الموت"، غير أنهم لم يتمكّنوا. و"كانت هناك جثّة امرأة ملقاة أمام المئذنة المهدّمة، وقد تناثرت صرّتها الصغيرة من الخرق الملوّنة فوق التراب"، فيما كانت قرية سورية أخرى قد "استحالت إلى أنقاض". أمّا الجنود الذين أذهلهم ذلك الموت المجّاني لبشر لا شأن لهم بحروبهم، فقد راحوا "يدخّنون سجائر حتى يبقى الأموات خارج أنوفهم"، أو "يتبادلون النكات حتى لا ينهش الأموات عقولهم".

من الجليّ أن مثل هذه التفاصيل لم تشغل مؤرّخاً مثل لونغريغ في كتابه "سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي"؛ إذ يرى أن "الأمنية الأولى للبلاد (يقصد سورية في تلك الأيام) كانت أن تواصل حياتها الاقتصادية. ولهذا فقد انخرط السوريون في الورشات التي تعمل لتلبية حاجات جيوش الحلفاء من الطعام واللباس، حيث أخذت تلك الجيوش الحرير السوري، كي تصنع منه مظلاّت لجنودها.

هذا الأمر لم يلق الاهتمام نفسه، في كتب المؤرّخين السوريين، هنا ترى أن كمال ديب مثلاً لا يشير في كتابه "تاريخ سورية المعاصر" إلى تلك المعاناة البشرية، بل يحدّثنا عن الكيفية التي صُنع بها تاريخ البلاد، في مشاركات الطوائف والأحزاب وانقلابات العسكر، بينما يقول هاشم عثمان الذي يبدو أكثر اهتماماً بحياة السوريين اليومية تحت الاحتلال في "تاريخ سورية الحديث" إن جيوش الحلفاء "دخلت سورية وأخرجت أتباع فيشي منها".

في أحد حواراته قال الروائي المكسيكي كارلوس فوانتيس: "تقول الرواية ما يمتنع التاريخ عن قوله". بقي أن نسأل الرواية السورية ماذا قالت عمّا فات التاريخ؟

دلالات
المساهمون