ما يزال كتّابٌ وأدباءٌ كثيرون مفتونين بقصة هـ.ج.ويلز "آلة الزمان"، حيث يصل بطلها إلى عالم مستقبلي غريب. الأشخاص الذين يقطنون فوق الأرض خائفون من أن يتخطفهم الساكنون تحت الأرض.
والحياة تقلد الأدب، وليس كما تعودنا أن يتبع الأدباء، في خيالاتهم وتصوراتهم، أحداث الحياة فيقتبسون منها، وها نحن نرى أمام أعيننا في هذا الزمان العالم ينقسم مع الوقت إلى قسمين، واحد يعيش فوق الأرض يتنعم، ويخاف على حياته المرفهة من اعتداءات الآخرين القاطنين تحت الأرض فعلياً أو مجازاً، وهؤلاء القسم الثاني.
ويرى الكاتب الفرنسي بيكيتي في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، أن العالم قد حصل فيه، في القرن الحادي والعشرين، تحول كبير في توزيع الدخل والثروة. والسبب أن العائد على رأس المال أعلى بكثير من العائد على العمل.
وحدث بفعل التطورات والتحولات التكنولوجية الهائلة انتقال في الدخل إلى المبدعين والمنظمين الجدد، بشكل لم يشهد العالم مثله قبل ذلك. ولذلك، صار 1% من سكان العالم فوق الأرض يملكون 99% من الأرصدة الرأسمالية في العالم.
وقد شهد العالم، بعد الثورة الصناعية، والتحول الكبير في المجتمعات الصناعية في القرن التاسع عشر ظاهرة مماثلة للقرن الحادي والعشرين. ولكن بروز قوى مضادة تحت الأرض، إن جاز التعبير، كالنقابات العمالية والحركات الاجتماعية، أدت إلى تحسين الأجور والرواتب على حساب الأرباح والفوائد.
ولا يحصل هذا التحول الكبير في الدخول والثروات، إن استمر الحال على حاله، في القرن الحادي والعشرين، من دون ردود فعل اجتماعية حادة على هذا الحال.
لقد شهد القرن العشرين الثورة الماركسية واستيلاءها على الحكم في دول مهمة في العالم. وكذلك انتشرت الأيديولوجية الاشتراكية، خصوصاً في الدول النامية، المتحرّرة حديثاً من الاستعمار، والتي لم يرق لها النموذج الرأسمالي المرتبط بالقوى المستغلة والمستعمرة، فاستعاضت عن ذلك بالفكر الاشتراكي.
وما دام حال توزيع الدخل ثابتاً على نمطه الحالي، سيشهد العالم بروز نماذج فكرية جديدة. وقد بدأنا نرى، مثلاً، في دول شمال أوروبا النموذج الاقتصادي الاجتماعي الذي يعطي الناس حقوقهم وحاجاتهم الأساسية بانفتاح، لكنه، في مقابل ذلك، يفرض ضرائب عالية، خصوصاً على أصحاب الدخول المرتفعة، ما يبقي توزيع الدخل معقولاً بين فئات المجتمع المختلفة.
وقد رأينا في دول كثيرة، في السنوات الأخيرة، ارتفاعاً حاداً في معدلات البطالة، خصوصاً بين الشباب.
وهذا يعني أن الجيل الأكبر سناً مهيمن على الفعاليات الاقتصادية، ويحتفظ لنفسه بفرص العمل على حساب الشباب. ولهذا، عدنا الى العالم الكلاسيكي الذي افترض أن عرض العمل كبير، وبدون حدود، وأن الأجور تخضع لنظرية القانون الحديدي الذي لا يسمح بزيادة فاتورة الرواتب عن مقدار معين، مهما زادت أعداد الموظفين والعاملين.
وينطبق هذا بشكل أكبر على الدول النامية، وقد رأينا أن هنالك ارتفاعاً حاداً في البطالة بين صفوف الشباب. ومما يعقد هذا الأمر أكثر أن المجتمعات النامية وصلت أو اقتربت من الوصول إلى ما يسميها علماء الديمغرافيا الفرصة السكانية، أي أن أكثر من ثلثي السكان يقعون في سن العمل. وهذا يعني زيادة في العروض من ساعات العمل، ومن صفوف الباحثين عن العمل.
اقرأ أيضا: التعليم والتنمية المستدامة
وتطول، في الوقت نفسه، مدة البحث عن العمل المناسب قبل الحصول عليها. ولذلك، كثر الفساد في تعبئة الوظائف الشاغرة المحدودة بالوساطة والقرابة واستخدام النفوذ. وأصبح إغراء المال ممكناً للحصول على فوائد من هؤلاء المعينين بالواسطة، أو النفوذ، لأنهم هم أنفسهم حصلوا على ما لا يستحقونه بالطريقة نفسها.
ولذلك، أصبحنا نشاهد توسعاً كبيراً في أمرين أساسيين، الأول الاقتصاد غير الرسمي، أي الاقتصاد غير المسجل لدى الدوائر الرسمية، والذي لا يدفع ضرائب، ولا يأخذ خدمات الحكومة ودوائرها.. وهؤلاء، بالطبع، يستخدمون الأطفال والشباب بأجور زهيدة وساعات عمل أطول. وكل هذا يجري فوق الأرض، لكنه مخفي عن أنظار الجهات الرسمية، ويشكل نسبة قد تصل، في بعض الأقطار العربية، إلى ما يتراوح بين 40% و50% من مجموع الاقتصاد الكلي.
ونتذكّر، في هذا الإطار، ما جرى مع التونسي محمد بوعزيزي الذي لم يجد عملاً في القطاع الرسمي، فتحول إلى بائع متجول، وأدى صفعه من شرطية إلى إحراق نفسه، شعوراً منه بالإذلال، فكان عود الثقاب الذي اشعل فتيل الحركات وموجات العنف وحتى الحروب التي نشهدها الآن في أقطار عربية عدة.
وفي غزة، لجأ أهلها، بسبب الحصار، إلى استخدام الأنفاق، وبناء نظام تجاري متكامل عبرها، وتنوعت الأنفاق تحت الأرض، أليس في هذا تجسيداً واقعياً للعالم الذي تحدث عنه هـ.ج.ويلز؟
ويلجأ آخرون إلى الجريمة، الفردية أو المنظمة، والأولى أسهل متابعة وأيسر منالاً على رجال الشرطة، لكن العقدة في الجريمة المنظمة التي تسمى "تحت الأرض"، أو "underground". ولهذه اقتصادها الخاص بها، وإدارتها الفعالة القاسية التي لا تسامح الفشل في إنجاز المهمات المطلوبة، وقد رأينا نمواً متزايداً في المنظمات الإجرامية العابرة للحدود، والعاملة في مجالات الرقيق الأبيض، وتهريب السلاح والمخدرات، والأعضاء البشرية والأطفال.
هنالك شواهد كثيرة على أن المجتمعات الدولية تنقسم إلى جزئين. نفر قليل غني متمتع بالسلطة وبالثراء، وأكثرية تكابد من أجل لقمة العيش وتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة. وفي غياب العدالة، وانتشار الفقر والبطالة بين الشباب، يصبح اللجوء إلى العنف وسيلة مقبولة، وحتى طريقة حياةٍ لا يرى أصحابها فيها غرابة.
ولذلك، يقوم هؤلاء من خلف القانون، ومن تحت الأرض، بالانقضاض على من هم فوق الأرض... والأعجب من هذا كله أن آلة الزمان التي تخيلها الروائي البريطاني ويلز لم تتحرك من مكانها. وما رآه بطل القصة في المستقبل وقع في المكان نفسه الذي كان ينسج فيه خيوط قصته على الورق.
اقرأ أيضا: النفط والسياسة والاقتصاد
ويرى الكاتب الفرنسي بيكيتي في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، أن العالم قد حصل فيه، في القرن الحادي والعشرين، تحول كبير في توزيع الدخل والثروة. والسبب أن العائد على رأس المال أعلى بكثير من العائد على العمل.
وحدث بفعل التطورات والتحولات التكنولوجية الهائلة انتقال في الدخل إلى المبدعين والمنظمين الجدد، بشكل لم يشهد العالم مثله قبل ذلك. ولذلك، صار 1% من سكان العالم فوق الأرض يملكون 99% من الأرصدة الرأسمالية في العالم.
وقد شهد العالم، بعد الثورة الصناعية، والتحول الكبير في المجتمعات الصناعية في القرن التاسع عشر ظاهرة مماثلة للقرن الحادي والعشرين. ولكن بروز قوى مضادة تحت الأرض، إن جاز التعبير، كالنقابات العمالية والحركات الاجتماعية، أدت إلى تحسين الأجور والرواتب على حساب الأرباح والفوائد.
ولا يحصل هذا التحول الكبير في الدخول والثروات، إن استمر الحال على حاله، في القرن الحادي والعشرين، من دون ردود فعل اجتماعية حادة على هذا الحال.
لقد شهد القرن العشرين الثورة الماركسية واستيلاءها على الحكم في دول مهمة في العالم. وكذلك انتشرت الأيديولوجية الاشتراكية، خصوصاً في الدول النامية، المتحرّرة حديثاً من الاستعمار، والتي لم يرق لها النموذج الرأسمالي المرتبط بالقوى المستغلة والمستعمرة، فاستعاضت عن ذلك بالفكر الاشتراكي.
وما دام حال توزيع الدخل ثابتاً على نمطه الحالي، سيشهد العالم بروز نماذج فكرية جديدة. وقد بدأنا نرى، مثلاً، في دول شمال أوروبا النموذج الاقتصادي الاجتماعي الذي يعطي الناس حقوقهم وحاجاتهم الأساسية بانفتاح، لكنه، في مقابل ذلك، يفرض ضرائب عالية، خصوصاً على أصحاب الدخول المرتفعة، ما يبقي توزيع الدخل معقولاً بين فئات المجتمع المختلفة.
وقد رأينا في دول كثيرة، في السنوات الأخيرة، ارتفاعاً حاداً في معدلات البطالة، خصوصاً بين الشباب.
وهذا يعني أن الجيل الأكبر سناً مهيمن على الفعاليات الاقتصادية، ويحتفظ لنفسه بفرص العمل على حساب الشباب. ولهذا، عدنا الى العالم الكلاسيكي الذي افترض أن عرض العمل كبير، وبدون حدود، وأن الأجور تخضع لنظرية القانون الحديدي الذي لا يسمح بزيادة فاتورة الرواتب عن مقدار معين، مهما زادت أعداد الموظفين والعاملين.
وينطبق هذا بشكل أكبر على الدول النامية، وقد رأينا أن هنالك ارتفاعاً حاداً في البطالة بين صفوف الشباب. ومما يعقد هذا الأمر أكثر أن المجتمعات النامية وصلت أو اقتربت من الوصول إلى ما يسميها علماء الديمغرافيا الفرصة السكانية، أي أن أكثر من ثلثي السكان يقعون في سن العمل. وهذا يعني زيادة في العروض من ساعات العمل، ومن صفوف الباحثين عن العمل.
اقرأ أيضا: التعليم والتنمية المستدامة
وتطول، في الوقت نفسه، مدة البحث عن العمل المناسب قبل الحصول عليها. ولذلك، كثر الفساد في تعبئة الوظائف الشاغرة المحدودة بالوساطة والقرابة واستخدام النفوذ. وأصبح إغراء المال ممكناً للحصول على فوائد من هؤلاء المعينين بالواسطة، أو النفوذ، لأنهم هم أنفسهم حصلوا على ما لا يستحقونه بالطريقة نفسها.
ولذلك، أصبحنا نشاهد توسعاً كبيراً في أمرين أساسيين، الأول الاقتصاد غير الرسمي، أي الاقتصاد غير المسجل لدى الدوائر الرسمية، والذي لا يدفع ضرائب، ولا يأخذ خدمات الحكومة ودوائرها.. وهؤلاء، بالطبع، يستخدمون الأطفال والشباب بأجور زهيدة وساعات عمل أطول. وكل هذا يجري فوق الأرض، لكنه مخفي عن أنظار الجهات الرسمية، ويشكل نسبة قد تصل، في بعض الأقطار العربية، إلى ما يتراوح بين 40% و50% من مجموع الاقتصاد الكلي.
ونتذكّر، في هذا الإطار، ما جرى مع التونسي محمد بوعزيزي الذي لم يجد عملاً في القطاع الرسمي، فتحول إلى بائع متجول، وأدى صفعه من شرطية إلى إحراق نفسه، شعوراً منه بالإذلال، فكان عود الثقاب الذي اشعل فتيل الحركات وموجات العنف وحتى الحروب التي نشهدها الآن في أقطار عربية عدة.
وفي غزة، لجأ أهلها، بسبب الحصار، إلى استخدام الأنفاق، وبناء نظام تجاري متكامل عبرها، وتنوعت الأنفاق تحت الأرض، أليس في هذا تجسيداً واقعياً للعالم الذي تحدث عنه هـ.ج.ويلز؟
ويلجأ آخرون إلى الجريمة، الفردية أو المنظمة، والأولى أسهل متابعة وأيسر منالاً على رجال الشرطة، لكن العقدة في الجريمة المنظمة التي تسمى "تحت الأرض"، أو "underground". ولهذه اقتصادها الخاص بها، وإدارتها الفعالة القاسية التي لا تسامح الفشل في إنجاز المهمات المطلوبة، وقد رأينا نمواً متزايداً في المنظمات الإجرامية العابرة للحدود، والعاملة في مجالات الرقيق الأبيض، وتهريب السلاح والمخدرات، والأعضاء البشرية والأطفال.
هنالك شواهد كثيرة على أن المجتمعات الدولية تنقسم إلى جزئين. نفر قليل غني متمتع بالسلطة وبالثراء، وأكثرية تكابد من أجل لقمة العيش وتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة. وفي غياب العدالة، وانتشار الفقر والبطالة بين الشباب، يصبح اللجوء إلى العنف وسيلة مقبولة، وحتى طريقة حياةٍ لا يرى أصحابها فيها غرابة.
ولذلك، يقوم هؤلاء من خلف القانون، ومن تحت الأرض، بالانقضاض على من هم فوق الأرض... والأعجب من هذا كله أن آلة الزمان التي تخيلها الروائي البريطاني ويلز لم تتحرك من مكانها. وما رآه بطل القصة في المستقبل وقع في المكان نفسه الذي كان ينسج فيه خيوط قصته على الورق.
اقرأ أيضا: النفط والسياسة والاقتصاد