02 يونيو 2019
ما خَفي كانَ أعظَم!
ماذا ستقرأُ الأجيالُ الجديدةُ في السيرِ الذاتيةِ أو مذكراتِ بعضِ الكتّابِ..؟! الأجيالُ التي أبصرتْ أو ستبصرُ عصرَ الزيفِ وخواءَ الفكرِ وضعفَ الموقفِ..
أسيكفي تحريفُ التأريخِ الشخصيّ في إضفاءِ صورةٍ أخرى غير التي استقرتْ في الذاكرةِ، بدعوى أنّ ما يُكتبُ يندرجُ في إطارِ المُتخيلِ ولا يمتُ للواقعِ بصلةٍ، ولا يكشفُ عن ممارسةٍ حياتيةٍ و ثقافيةٍ، ربَّما سنقرأُ جميعاً اعترافاتٍ لكنْ على طريقةِ "جان جاك روسو"، أو "أوسكار وايلد".
أسيكفي تحريفُ التأريخِ الشخصيّ في إضفاءِ صورةٍ أخرى غير التي استقرتْ في الذاكرةِ، بدعوى أنّ ما يُكتبُ يندرجُ في إطارِ المُتخيلِ ولا يمتُ للواقعِ بصلةٍ، ولا يكشفُ عن ممارسةٍ حياتيةٍ و ثقافيةٍ، ربَّما سنقرأُ جميعاً اعترافاتٍ لكنْ على طريقةِ "جان جاك روسو"، أو "أوسكار وايلد".
أقولُ هذا، وأنا أطالعُ بعضَ الكتاباتِ التي تمجدُ الذاتَ في ضعفِها وصلادتِها، في فشلِها ونجاحِها على حدّ سواء، وهي تقلّبُ الأحداثَ و تُشذّبُ المواقفَ بطريقةٍ فانتازية، حتى يُخيلَ للقارئ أنّ "ستيفن ديدالوس" يُبعثُ من جديدٍ بكلِّ مثالياته التي آلتْ به إلى عزلةٍ وصمتٍ.
أيعلمُ هذا الكاتبُ أو ذاك بأن ما يكتبه محضَ خرافةٍ لا سبيل لتصديقها؟.. ربَّما يعلمُ، لكنّ غوايةَ (الإنسان الكامل) ترغمه على أن يكشفَ عن مواقفَ وأحداثٍ مفتعلةٍ لا أثر لها إلاّ في نفسه..
لستُ ،هنا، بصددِ الحديثِ عن المذكرةِ أو السيرةِ وتنويعاتها الأدبية، كما لا أتحدثُ من منطقِ تأويلِ النوايا، إنما أتحدثُ عن المفارقةِ بينَ ما يكتبهُ "البعضُ" وبينَ ما هو واقع معاش.
كيفَ، مثلاً، ستُصدقُ المغامراتُ النضاليّةُ السريّةُ لمثقفٍ لم يكنْ له موقفٌ واضحٌ في حياته إزاء وطنه وثقافته، أو يُصدقُ مَن يصوّر الحريةَ نهجَ حياةٍ على طريقةِ لوركا: (ما الإنسانُ دونَ حريةٍ يا ماريانا؟) وفي داخله إنسانُ العصورِ الوسطى.. أو يُصدقُ مَن يتقمصُ، مثلاً، شخصيةَ أبي العلاء المعريّ بأسئلته وتمرده وهو لا يجدُ نفسه إلا معَ القطيعِ، أيّ قطيعٍ كانَ؟!
ما عادَ الكاتبُ المثقفُ سارقَ النارِ، أو القلبَ النابضَ للجماهيرِ على حدّ وصفِ غرامشي، فالواقعُ الذي نعيشه الآن يشيرُ إلى غير هذا تماماً، يشيرُ إلى غيابِ أو تغييبِ المثقفِ الحقيقي، وظهورِ مَن يسهمُ في صناعةِ الخرابِ والتجهيلِ وتكميمِ الأفواهِ ومنعِ الحرياتِ..
لم يكنْ فعل الكاتب ومواقفه خارجَ مدى الرؤيةِ حتى يُحمَلَ محملَ صدقِ في ما يكتبُ من فتوحاتٍ، ربَّما عند أغلبِ مَن دخلَ الحياة الثقافيةِ، من بابها الضيقِ أو الواسعِ، تجربةٌ في اكتشافِ زيف الادعاءاتِ الرنانةِ، والبكاءِ الكاذبِ على اطلالِ الوطنِ المفقودِ..
فمعَ كلِّ ما يمرّ به واقعنا الراهن من ظروفٍ حرجةٍ، بسببٍ مِن تشتتِ الهويةِ الوطنيةِ وإعلاءِ الهوياتِ الثانويةِ الأخرى كالأيديولوجيا والحزب والقبيلة وغير ذلك، مازالَ البعضَ يروّج لهذه الهويات ويتشبثُ بها، ويحتّمُ على الأجيالِ الجديدةِ أن تكونَ جزءاً مِن الصراعِ واستمراراً له، أما يكفي كلُّ هذا الخراب والموت المجاني أن يكونَ داعياً لإعادةِ النظرِ بمهمةِ المثقفِ المعاصر، والخروج مِن عباءةِ الماضي وتابواته بكلِّ تجلياتها؟!
قد يُعدُّ الصراعُ القائمُ على إقصاءِ الآخر وتهميشه جزءاً مِن عمليةِ التثاقفِ، وتُلمّعُ الصورةُ بمسمياتٍ كالنقدِ أو المعارك الأدبيةِ أو دفاع عن "بيضةٍ.." ما عادت بيضاء وإلى غير ذلك مِن المسمياتِ ذات الصوغِ البريء، وما أن تلجَ إلى مظانها تجدُها تلفيقاتٍ وتهماً وتتبعَ سقطاتٍ بغيةَ الإجهازِ على جهدِ الآخر وعطائه وإزاحته عن المشهدِ، لمجردِ اختلافٍ في وجهاتِ النظرِ ومساراتِ التفكيرِ..
أوَ هذه مهمةُ الكاتب المثقفِ التي عبّرَ عنها ادوارد سعيد: "إنّ المثلَ الأعلى للمثقفِ هو أن يمثّلَ التحررَ والتنويرَ.."؟!.
رغم هذا كلّه، لا يخلو الواقعُ مِن أصواتٍ ثقافيّةٍ أصيلةٍ، حريصة كلّ الحرصِ على مستقبلِ الثقافةِ، ساعيةً إلى توحيدِ الموقفِ والكلمةِ، والتبشيرِ بقيمٍ عليا، تضمنُ للإنسانِ كرامته وحقه في العيشِ داخل الوطنِ الواحد، وتعمدُ، كتابةً وسلوكاً، إلى تقويضِ الأفكارِ الظلاميةِ حالة محلها فكراً نيراً مشرقاً، أو حسب رأي ميشيل فوكو: "تجسد ضمير الإنسان، وتوقظ فيه الوعي"، وهي بذلك تعبّدُ الطريقَ للأجيال الجديدة، محفزةً إياها على الاستمرار بخطى ثابتة وصبر وتأنٍ، وهي تذكرنا بدعوة الدكتور طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" حينَ أرادَ للثقافةِ أن تزدهر، وللوعي أن يبلغَ مدى أوسع في الحياةِ الاجتماعية، وأن تبقى الصلةُ دائمةً بين الأجيال..