قد يكون مبكراً التنبؤ بما ستؤول إليه الأحداث الجارية في مالي، منذ أول من أمس الثلاثاء، على خلفية الانقلاب المتواصل الذي نفّذه جنود في قاعدة كاتي، القريبة من العاصمة باماكو. وعلى الرغم من أن الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، الذي قدّم استقالته منتصف ليل الثلاثاء – الأربعاء، إثر اعتقاله وأعضاء حكومته من قبل الانقلابيين، قد أقرّ بأن هؤلاء "ربما رأوا أن تسلسل الأحداث كان يجب أن يقود" إلى اعتقاله واستقالته، ما يعني وجود محفزات للانقلاب، تستمد في الحالة المالية من الاحتقان المجتمعي خصوصاً، في ما يشبه مياهاً تغلي في هذا البلد منذ شهور، إلا أن أهداف الانقلابيين الحقيقية لا تزال غير واضحة، على الرغم من تعهدهم بسلطة مدنية، كما أن المعارضة، التي هي خليط ديني، إسلامي خصوصاً، ومدني، ومن وجوه سياسية، قد تكون مفرطة في تفاؤلها في إمكانية التوافق لبناء "الدولة المالية"، كما وعد العسكر، إذا ما صدقوا في منحها السلطة لاحقاً.
لكن التعقيد لا ينحصر في هذا الشق من المسألة الداخلية فقط، في ظلّ الخطر "الإرهابي"، الذي قد يكون داهماً إذا ما استمرت الفوضى، مع إمكانية تفلتها بقوة أكثر خارج الحدود، فيما تعاني مجموعة الساحل من ترسباته وتداعياته القبلية على أكثر من صعيد. أما المجتمع الدولي، وخصوصاً فرنسا، المستعمرة السابقة لمالي، فتقف حائرة بين محاربتها "الإرهاب" ومصالحها الاقتصادية في المنطقة، حيث تخوض "حربها الأبدية"، كما يقول الفرنسيون، وهي تريد حماية ما تبقى من "إمبراطوريتها" الفرنكوفونية، ما يجعل لديها أكثر من مصلحة في الإشراف المباشر على تطورات الأحداث، حيث يكتفي الأميركيون بالدور الاستخباري تحت عنوان "مستشارين عسكريين"، في ظلّ انكفائهم المتواصل. وتبقى الأولوية لفرنسا، التي واجه وجودها في مالي خلال العامين الماضيين نفوراً شعبياً متصاعداً، في مواجهة المجموعات "الجهادية" في المثلث الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، والحفاظ على مصالح حيوية مع دولة استراتيجية، مثل مالي، التي كانت يوماً قصة نجاح، سرعان ما تبخر، ما فتح المجال لحراك سياسي وشعبي لم تثبت تجارب أخرى نجاحه. وفي خريطة طريق لما يحتمل أن تسير عليه الأحداث لاحقاً، أكد مفوض الصناعة بالاتحاد الأوروبي تيري بريتون، أمس الأربعاء، أن التكتل مصمم على إجراء انتخابات جديدة في مالي خلال إطار زمني معقول، وذلك وسط ضغط دولي لإطلاق سراح كيتا.
حفّّز الاحتقان المجتمعي خصوصاً، في مالي، الانقلاب العسكري، إلا أن أهداف الانقلابيين الحقيقية لا تزال غير واضحة
وأعلن العسكريون، الذين استولوا على السلطة في مالي، ليل الثلاثاء - الأربعاء، تشكيل "لجنة وطنية لإنقاذ الشعب"، مكوناتها ليست معروفة، مؤكدين أنهم يريدون "انتقالاً سياسياً مدنياً"، يُفترض أن "يؤدي إلى انتخابات عامة" خلال "مهلة معقولة"، كما قدموا تطمينات إلى المجتمعين الدولي والأفريقي باحترام الشراكة معهم. وفجر أمس، وبعد 3 ساعات من استقالة كينا إثر اعتقاله، ظهر عسكريون على القناة العامة "أو آر تي أم"، وقال أحدهم، الذي قدم نفسه بأنه المتحدث باسمهم، الكولونيل إسماعيل واغي، مساعد رئيس أركان سلاح الجو: "نحن، قواتنا الوطنية المجتمعة داخل اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب، قررنا تحمل مسؤولياتنا أمام الشعب وأمام التاريخ"، مضيفاً أن "بلادنا تغرق يوماً بعد يوم في الفوضى وعدم الاستقرار بسبب الرجال المكلفين مصيرها". ودان واغي "المحسوبية السياسية" و"الإدارة العائلية لشؤون الدولة"، وكذلك "سوء الإدارة والسرقة والحكم التسعفي"، وقضاء "منفصلاً عن واقع المواطنين" و"تعليماً وطنياً يتدهور"، وكذلك المجازر بحق القرويين والإرهاب والتطرف. وتابع أن "المجتمع المدني والحركات الاجتماعية السياسية مدعوة للانضمام إلينا لنقوم معاً بإيجاد أفضل الظروف لانتقال سياسي مدني، يؤدي إلى انتخابات عامة تتمتع بالصدقية للممارسة الديمقراطية عبر خريطة طريق ترسي أسس مالي جديدة". وطلب واغي من المنظمات الدولية والإقليمية "مواكبتنا"، مؤكداً أن بعثة الأمم المتحدة، مينوسما، وقوة برخان الفرنسية ومجموعة دول الساحل الخمس، وقوة تاكوبا (قوات خاصة أوروبية)، "يبقون شركاءنا". وأضاف أن كل الاتفاقات الموقعة ستحترم، مشدداً على أن العسكريين "متمسكون" باتفاق السلام الذي وقع في الجزائر عام 2015 بين باماكو والمجموعات المسلحة في شمال البلاد. كما أكد عدم تمسك العسكر بالسلطة، لكن بـ"الاستقرار".
وجاء هذا الإعلان بعد أكثر من 3 ساعات على إعلان كيتا مغادرة منصبه، بعد يوم انقلاب عسكري طويل. وقدم كيتا استقالته من قاعدة كيتا العسكرية، التي نقل إليها أول من أمس، بعد اعتقاله من قبل الجنود المتمردين. وقال في خطاب بثّه التلفزيون الرسمي، إنه "لـ7 سنوات، كنت سعيداً بخدمة مالي، وأحاول تقويم البلاد واستعادة أمنها"، مضيفاً "ليس لدي حقاً خيار سوى الخضوع، لأنني لا أريد إراقة دماء لبقائي كرئيس". كما أعلن حلّ البرلمان والحكومة التي كان قد اعتقل رئيسها بوبو سيسي. وكان التمرد قد نجح في اعتقال جلّ أعضاء الحكومة وعدد من الجنرالات وكبار الضباط، في وقت خرج آلاف الماليين للساحات والشوارع تأييداً للتمرد.
وكان كيتا قد انتخب عام 2013 رئيساً لمالي، ثم أعيد انتخابه في العام 2018 بأكثر من 60 في المائة من الناخبين، ولكن بدورة ثانية. وواجه كيتا أخيراً معارضة قوية لحكمه، خصوصاً حراك 5 يونيو/ حزيران المعارض، الذي يقوده زعيم التيار الإسلامي الشيخ محمود ديكو. ويتّهم التحالف كيتا والمحيطين به بالفساد والمحسوبية في إحدى أفقر دول العالم، ويحتجّ على تدهور الوضع الأمني والركود الاقتصادي وفشل الدولة، كما أضيف إليها قرار المحكمة الدستورية بإلغاء نتائج نحو 30 مقعداً في الانتخابات التشريعية التي جرت في مارس/ آذار الماضي. وتعاني مالي منذ 2012 من أزمة أمنية وسياسية واقتصادية بسبب تنامي الإرهاب في الشمال والوسط، وتقاعس الأجهزة الأمنية عن ملاحقة الجماعات المرتبطة بـ"القاعدة" و"داعش". وهذا هو رابع انقلاب عسكري في مالي، والثاني خلال 8 سنوات.
توعدت المجموعة الاقتصادية الأفريقية الانقلابيين بإجراءات وعقوبات مالية
ودانت الولايات المتحدة والمغرب والنيجر وتشاد والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا الانقلاب. وتوعدت المجموعة الاقتصادية الأفريقية الانقلابيين بإجراءات وعقوبات مالية. وقالت المنظمة، التي تضم 15 بلداً بينها مالي، إنّها سترسل وفداً رفيعاً "لضمان العودة الفورية للنظام الدستوري" في باماكو، كما دانت بشدة "إطاحة عسكريين انقلابيين بحكومة الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا المنتخبة ديمقراطياً"، مؤكدة أنها لا تعترف "بأي شكل من الأشكال بالانقلابيين، وتطالب بإعادة النظام الدستوري فوراً، وبالإفراج الفوري عن رئيس الدولة وعن جميع المسؤولين المعتقلين". كما قرّرت "تعليق" عضوية مالي في جميع هيئاتها التقريرية "فوراً". كذلك قررت "إغلاق جميع الحدود البرية والجوية ووقف جميع التدفقات والمبادلات الاقتصادية والتجارية والمالية بين الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ومالي"، ودعوة "جميع الشركاء لفعل الشيء نفسه"، و"التطبيق الفوري لمجموعة من العقوبات ضدّ جميع الانقلابيين وشركائهم والمتعاونين معهم".
كما دانت فرنسا، التي لديها أكثر من 4500 جندي في مالي، التمرد، داعية للحوار ودعم الوساطة التي قامت بها مجموعة الساحل الأفريقي لحلّ الأزمة. ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى "الإفراج فوراً وبلا شروط" عن كيتا، و"إعادة النظام الدستوري فوراً". وكان ماكرون قد تواصل هاتفياً مع عدد من القادة في المنطقة، إثر ورود المعلومات عن انقلاب في مالي، خصوصاً مع نظرائه النيجري محمد يوسفو، ورئيس ساحل العاج الحسن واتارا، والسنغالي ماكي سال. وفور التأكد من حدوث انقلاب، تمكن ماكرون من الاتصال بإبراهيم أبوبكر كيتا، قبل قليل من اعتقاله. وقال مصدر دبلوماسي فرنسي، لصحيفة "ليبراسيون"، إن الهدف من الاتصال "كان أن نشير إليه بأننا على الخط ذاته الذي تنتهجه المجموعة الاقتصادية الأفريقية". وأصدر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بياناً أعرب فيه عن قلقه من "التمرد" الحاصل، مديناً بـ"أشد العبارات الحدث الخطير". وأمس، دعت مجموعة دول الساحل الخمس في غرب أفريقيا الانقلابين إلى إطلاق سراح الرئيس، معربة عن التزامها "الذي لا يتزحزح بالنظام الدستوري واحترام المؤسسات القائمة على أساس ديمقراطي".
وتعد قاعدة "كاتي" العسكرية، التي تبعد 18 كيلومتراً شمال العاصمة باماكو، وانطلق منها التمرد - الانقلاب، من أهم القواعد العسكرية في مالي، وكان قد بدأ فيها في العام 2012 التمرد الذي أطاح بالرئيس المالي السابق أمادو توماني توري.
وتعليقاً على الأحداث الجارية في مالي، رأى إيفان غيشاو، الخبير في منطقة الساحل، لصحيفة "ليبراسيون"، أن "محيط الرئيس المالي كان مكروهاً، ويواجه رفضاً، أخيراً، من مجمل المجتمع، بما فيه أجنحة من الجيش"، مؤكداً أن "الانقلاب هو بلا شك مرتبط بقوة بتدهور الوضع الاجتماعي، حتى لو كانت لمطلقيه أهداف عسكرية بحتة".
وقال كيل مورفي، وهو محلل سابق في وكالة الاستخبارات الدفاعية، لصحيفة "نيويورك تايمز"، إن "التحديات الاقتصادية في مالي والإدارة الداخلية الفاشلة، تقود إلى عدم الاستقرار في المنطقة"، معتبراً أن "هذا أمر مهم أيضاً للولايات المتحدة، لأن غير ذلك سيقود إلى تقدم أجندة المتطرفين، وموجة هائلة من النزوح".
(العربي الجديد)