مالي... تطبيع مع العنف

14 نوفمبر 2019
أخفقت عملية "برخان" الفرنسية في مالي (فرانس برس)
+ الخط -
تُقاس مصائبُ قومٍ، في العادة، بحجم الكارثة الإنسانية الناجمة عنها، وغالباً ما تسمى مأساة بالنظر إلى عدد موتاها. من هذا المنطلق، تبدو مالي اليوم، مع دورة العنف المتفاقمة فيها خلال العام الحالي، والأشد منذ أزمة شمالها في العام 2012، اختصاراً متواصلاً لمتُلازمة بحجم قارة، لكن بخاصية تفوح منها رائحة الموت المتنقل. وليس مقتل 53 جندياً مالياً، بداية نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، شمال شرقي البلاد، في هجوم تبناه تنظيم "داعش"، سوى آخر العنقود في سلسلة متصاعدة من الهجمات الدموية، العابرة للحدود، والتي أعادت تسليط الضوء على الإخفاق المحلي والدولي في منطقة الساحل.

وعاد الحديث عن مالي، والعنف المستجد فيها، قبل أشهر من هجوم إنديليماني، بداية الشهر الحالي، والذي استهدف قاعدة عسكرية أنشأها الفرنسيون للقوات المالية قبل عام في هذه القرية الواقعة في منطقة ميناكا قرب الحدود مع النيجر. مقاتلو "داعش" أو "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى"، المنشق عن تنظيم "المرابطون"، والذين يتزعمهم عدنان أبو وليد الصحراوي، وينشطون بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، اقتحموا القاعدة، ونفذوا هجوماً استمر ساعات، ليختفوا بالتزامن مع تأهب الطائرات الفرنسية، مخلفين وراءهم 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً قتلى.

وتختصر منطقة ميناكا الشرور الكثيرة التي لا تزال تجعل أي أفق للسلام في مالي مستحيلاً: غياب الدولة، انعدام التنمية، بقاء السلاح بأيدي المتمردين السابقين، الفقر والبطالة وارتفاع نسبة الشباب وقود الفوضى والتطرف المتغلغل، تفاقم أزمة النزوح الداخلي، والتدخل الدولي أو "الاستعمار الجديد". تضاف إلى هذه العوامل مسألة غاية في الأهمية فاقمت من حدة العنف، ألا وهي الاحتباس الحراري، التي جعلت من العنف وسيلة للبحث عن الحياة في هذه المنطقة الصحراوية.

وكان هجوم إنديليماني قد سبقه آخر ليل 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، استمر يوماً، واستهدف موقعين للقوات المالية في بلدتي بولكيسي وموندورو، بالقرب من الحدود مع بوركينا فاسو، وتبنته "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، وهي تحالف جماعات إسلامية مسلحة، مرتبطة بتنظيم "القاعدة"، أشهرها "المرابطون" و"جماعة أنصار الدين". وفيما تحدثت السلطات عن مقتل 40 جندياً في هذا الهجوم المزدوج، تبنت الجماعة الإرهابية مقتل 85، ما قد يشكل أكبر خسارة بشرية لهذه القوات منذ توقيع اتفاق سلام الجزائر، في باماكو، في العام 2015، بين الحكومة المالية وتنسيقية الحركات الأزوادية.




وتأتي هذه الخسارة بعد أربع سنوات من إخفاق السلطات المالية، وعملية "برخان" الفرنسية في مالي (4500 جندي فرنسي)، وانتشار نحو 15 ألف جندي وشرطي وموظف لبعثة الأمم المتحدة في مالي (مينوسما)، وكذلك فشل منظومة التعاون الأمني والتنموي لقوة "جيش الساحل"، التي لا تزال عقبات كثيرة تحول دون نشأتها العملية، وسط تخبط دولي في التمويل. ويأتي هذا التخبط في ظلّ استمرار الولايات المتحدة في سحب يدها من التمويل الأممي، علماً أن قوة من 250 جندياً بريطانياً من قوات النخبة، سينضمون في العام 2020 إلى القوة الأممية بطلب من الأخيرة، التي قتل لها أكثر من 200 جندي منذ بدء عملها، وذلك نظراً للإمكانات الاستخبارية المتقدمة التي بإمكان بريطانيا تقديمها.

وفيما يهدد العنف بتفتت مالي، لا تبدو أزمة الشمال بمعزل عن انتقال دورة الموت إلى وسطها. في يونيو/ حزيران الماضي، قتل 23 شخصاً من قبيلة الفولاني المسلمة التي تعيش حياة الرعاة والترحال، وفقد المئات منهم، في هجوم مسلح نفذته قبيلة الدوغون التي تعتمد على الصيد، واستهدف قرى عدة في منطقة موبتي، وسط مالي. وكان رجال عصابات، يُعتقد أنهم من الدوغون، قد نفذوا مجزرة بحق الفولاني في منطقة أوغوساغو، وسط مالي، في مارس/ آذار الماضي، راح ضحيتها 160 قتيلاً وعدد كبير من الجرحى. وتعتمد الدوغون على قوة استمدتها من دعم الدولة لها، وتسليحها، خصوصاً في الصراع في الشمال، وهي أسست مليشيا "دانا أماساغو" عام 2016، بحجة حماية القبيلة، فيما تتهم الفولاني بالتأثر بتنظيم "القاعدة". وأدت مذبحة مارس إلى استقالة الحكومة المالية، وإصدار أمر بحلّ مليشيا "دانا أماساغو" بطلب من الرئيس إبراهيم بوباكر كيتا، الذي انتخب العام الماضي لولاية ثانية. لكن المليشيا رفضت تسليم السلاح.

وليست اشتباكات الفولاني مع القبائل الأخرى، الدوغون والبامبارا، وسط مالي، بجديدة، لكنها اكتسبت حدة أخيراً، ما جعل الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر خوفاً من حملة تطهير عرقي، في ظلّ انتشار موجة التطرف الإسلامي الذي يغذيه الشعور بالإقصاء لدى الفولانيين، وتفاقمه انتهاكات قوات الأمن التي سعت للانتقام من العديد ممن انضموا إلى جماعة "أنصار الدين" وحاربوا في الشمال، بالإضافة إلى تدفقات السلاح من مناطق الصحراء الشاسعة في الشمال التي تفتقر لحكم القانون.

وكان لظهور "كتيبة ماسينا" في وسط مالي، التي ينتمي عناصرها إلى قومية الفولاني، وتعتبر فرعاً قومياً من حركة "أنصار الدين" الإسلامية، في العام 2015، وخطب الداعية أمادو كوفا، دور في تغذية العنف الذي وجد أرضاً خصبة له، في ظلّ الدعوة إلى محاربة الوجود الفرنسي في البلاد، ودعوة مضادة للتصدي للإرهاب الإسلامي. هكذا، أصبح وسط مالي يعيش اليوم حالة تطبيع مع العنف، ينذر بتمدده إلى مناطق مجاورة. ومع معدلات فقر تتخطى الـ60 في المائة، وموجة جفاف وتصحر، باتت الأزمة الإنسانية تقترب من حدود الكارثة. لكنها كارثة لا تزال تديرها المصالح الجيوسياسية، للنظام المحلي، والمستعمرين الجدد.

دلالات