23 أكتوبر 2024
ماكرون واستعمار جديد في أفريقيا
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
يحاول الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، استعادة أمجاد فرنسا، دولة وازنة على الساحة الدولية، مستغلا تضافر عدة عوامل لصالحه، في مقدمتها توتر العلاقة بين بلدان الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية الجديدة، ودخول دول الاتحاد الأوروبي في مرحلة تيه وفقدان البوصلة؛ جرّاء ضغط الأزمات الداخلية (خروج بريطانيا، تنامي الشعبوية، المخاطر الأمنية ..).
استعادت الدبلوماسية الفرنسية حيويتها، بمجرد دخول الرئيس الشاب قصر الإليزيه، فتحرّكت، بشكل ملفِت، في ملفات حارقة على الساحة الدولية، وتمكنت من النجاح في حلحلة بعضها (احتجاز سعد الحريري في الرياض مثلا)، ما رفع منسوب الثقة لدى ماكرون في إمكانية إعادة بلاده إلى صف الكبار، بعد الانكماش الدبلوماسي البيّن الذي لحقها مع الرئيس نيكولا ساركوزي، ثم الركود في فترة حكم الرئيس فرانسوا هولاند.
تحُول عقبات عدة دون تحقيق هذا الطموح؛ منها ما يتصل بالسياق الداخلي الفرنسي المأزوم على أكثر من صعيد، لكن أكثرها مرتبط بالتحولات الخارجية التي تفرض على فرنسا تغيير الإيقاع، إن كانت راغبةً في استعادة مقعدها ضمن نادي الكبار.
أدرك ماكرون ذلك مبكرا، ما دفعه، منذ أيامه الأولى في الرئاسة، إلى توجيه بوصلة السياسة الخارجية نحو تحصين المصالح الفرنسية في أفريقيا وتأمينها، والحفاظ على الحديقة الخلفية لباريس، في هذه المنطقة التي كانت تمثل مستعمراتها التقليدية. بما يعنيه ذلك من تقوية لقدراتها التنافسية، وإزاحة القوى التي تبحث لها عن موطئ قدم في قارة المستقبل. لكن هذا التوجه يضع ماكرون في تناقضٍ مع نفسه، حين صرَّح، في عز حملته الرئاسية شهر فبراير/ شباط 2017، أن "الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي، وأنه جريمة ضد الإنسانية"، وهذا قول اعتبره كثيرون حينها إدانة علنية غير مسبوقة لجرائم الاستعمار، وطعنة في ظهر فرنسا. كرَّر الرئيس هذا الاعتراف في خطاب آخر؛ من أعماق أفريقيا هذه المرة، مع بعض التلطيف، حين قال: "كانت هناك جرائم كبيرة، ولكن كانت هناك أيضا عناصر حضارية وتواريخ سعيدة".
واضح أن ماكرون يسعى إلى تقديم نفسه رئيسا شابا قادما من عالم ما بعد الاستعمار، ولذلك هو غير مستعد لتحمل تبعات كل هذا الإرث؛ فتلك الجرائم بحسبه سقطت بالتقادم، وتنتمي إلى تاريخ ينبغي تجاوزه. لذا كل ما عليه، وعلى الأفارقة أيضا، نسيان هذا الماضي، والمضي نحو المستقبل.
تبقى هذه الأماني والتصريحات للاستهلاك الإعلامي فقط، فماكرون يدرك أن هذه القارة باحة استثمار مستقبلية واعدة، بقوة سكانية تتجاوز مليار نسمة، لا تزال أغلب دولها بحاجة لاستثمارات ضخمة في مجالات البنية التحتية والخدمات. ويدرك أيضا أن منظومة ضخمة من الشركات المشكلة للقوة الضاربة في قطاع الأعمال الفرنسي تعتمد، بشكل رئيس، على استثماراتها في أفريقيا، ولا محل في حساباتها لمثل هذا الخطاب "التقدمي".
في مقابل ذلك، تكشف معطيات الواقع هوس ماكرون بإعادة بسط السيطرة الفرنسية على القارة السمراء، بنهج سياسة استعمارية جديدة، تحل بموجبها كبرى الشركات الفرنسية محل النظام الفرنسي الذي تراجع نفوذه، بعدما فقد سلطة تثبيت الأنظمة الحاكمة وإطاحتها؛ من خلال شراء الولاءات القبلية، وتمويل العصابات المحلية.
يظهر أن سياسة تدفق الشركات لممارسة النفوذ بدل الدولة، قصد إبعاد شبهات النوايا الاستعمارية، خيار غير محسوب العواقب، في نظر خبراء الدبلوماسية الفرنسية. وخصوصا مع تلقي النفوذ الفرنسي في أفريقيا ضربات متتالية، نظرا للصورة المحفورة في الذاكرة التاريخية للأفارقة عن جحافل الشركات الغربية المتدفقة للقارة على مدار أكثر من قرن.
لم يبق أمام ماكرون، إذن، سوى مشجب "محاربة الإرهاب" مدخلا لاستعادة نفوذ بلاده في أفريقيا، الذي أضحى توجها استراتيجيا لفرنسا. لذا لم يتردد في تثبيت وجود بلاده العسكري في المنطقة. فيما كان الحديث؛ طوال فترة ما بعد الاعتداءات الإرهابية المتلاحقة على التراب الفرنسي، يدور عن الانسحاب العسكري من مناطق التوتر.
على هذا الأساس، كثفت الرئاسة الفرنسية من جهودها لتأهيل قوات ونشرها في الساحل، فيما
يُعرف بدول منطقة الساحل الخمس (مالي، النيجر، تشاد، بوركينافاسو، موريتانيا)، التي ستتولى مهمة حراسة المنطقة، بقوة قوامها خمسة آلاف جندي فرنسي، وصفها ماكرون بأنها "حل أفريقي للمشكلات الأفريقية".
يعي ماكرون أن هذا الحل، وإن كان يعبد الطريق أمام استعمار جديد لأفريقيا، فهو يبقى معلقا على شرط واقف يتعلق بالتمويل الذي لن ينال الإجماع في الداخل الفرنسي، لما يلقيه من أعباء على الميزانية العامة للدولة، فقد صُنفت فرنسا الدولة الأكثر إنفاقا عسكريا، على مستوى غرب أوروبا، فهي تنفق، منذ سنة 2015، ما يصل إلى مليار يورو على حوالي تسعة آلاف عسكري فرنسي. ولذلك سارع الرئيس ماكرون إلى البحث عن تمويل يساعده على تحقيق هذه الاستراتيجية التي تضمن له الوجود الفرنسي في أفريقيا لحماية المصالح الفرنسية، ويستند عليها من أجل فرض نفسه ضمن نادي الكبار. وفي الوقت نفسه، يتحلل من الالتزامات المالية التي تثقل الميزانية، والمقدّرة بحوالي 420 مليون يورو. وقد نجح في ذلك، حيث حصل على دعم من العربية السعودية قدر بحوالي مائة مليون دولار، ومن الإمارات بنحو ثلاثين مليون دولار. فيما الاتحاد الأوروبي ودول الساحل المعنيان الأساسيان بهذه المخاطر لم يقدما تباعا سوى خمسين مليون يورو، وعشرة ملايين يورو لكل دولة على حدة، بينما تعهدت الولايات المتحدة الأميركية بمبلغ ستين مليون دولار، وفق شروط خاصة ودقيقة.
يتقن ماكرون استغلال السياق العام وتوظيفه لخدمة مصالحه؛ بشكل لم يسبقه إليه أي رئيس فرنسي، حيث وظف بذكاء ونباهة ورقة عدم انتمائه الحزبي، في الداخل الفرنسي كما في الخارج، للتأسيس لمرحلة جديدة في تاريخ الدولة الفرنسية. كما وظف فزّاعة "محاربة الإرهاب" قصد العودة القوية إلى أعماق أفريقيا التي يعتبرها جسرا يعبد طريق بلاده إلى الريادة الدولية، من دون أن ينكشف أسلوبه "الاستعماري الجديد".
استعادت الدبلوماسية الفرنسية حيويتها، بمجرد دخول الرئيس الشاب قصر الإليزيه، فتحرّكت، بشكل ملفِت، في ملفات حارقة على الساحة الدولية، وتمكنت من النجاح في حلحلة بعضها (احتجاز سعد الحريري في الرياض مثلا)، ما رفع منسوب الثقة لدى ماكرون في إمكانية إعادة بلاده إلى صف الكبار، بعد الانكماش الدبلوماسي البيّن الذي لحقها مع الرئيس نيكولا ساركوزي، ثم الركود في فترة حكم الرئيس فرانسوا هولاند.
تحُول عقبات عدة دون تحقيق هذا الطموح؛ منها ما يتصل بالسياق الداخلي الفرنسي المأزوم على أكثر من صعيد، لكن أكثرها مرتبط بالتحولات الخارجية التي تفرض على فرنسا تغيير الإيقاع، إن كانت راغبةً في استعادة مقعدها ضمن نادي الكبار.
أدرك ماكرون ذلك مبكرا، ما دفعه، منذ أيامه الأولى في الرئاسة، إلى توجيه بوصلة السياسة الخارجية نحو تحصين المصالح الفرنسية في أفريقيا وتأمينها، والحفاظ على الحديقة الخلفية لباريس، في هذه المنطقة التي كانت تمثل مستعمراتها التقليدية. بما يعنيه ذلك من تقوية لقدراتها التنافسية، وإزاحة القوى التي تبحث لها عن موطئ قدم في قارة المستقبل. لكن هذا التوجه يضع ماكرون في تناقضٍ مع نفسه، حين صرَّح، في عز حملته الرئاسية شهر فبراير/ شباط 2017، أن "الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي، وأنه جريمة ضد الإنسانية"، وهذا قول اعتبره كثيرون حينها إدانة علنية غير مسبوقة لجرائم الاستعمار، وطعنة في ظهر فرنسا. كرَّر الرئيس هذا الاعتراف في خطاب آخر؛ من أعماق أفريقيا هذه المرة، مع بعض التلطيف، حين قال: "كانت هناك جرائم كبيرة، ولكن كانت هناك أيضا عناصر حضارية وتواريخ سعيدة".
واضح أن ماكرون يسعى إلى تقديم نفسه رئيسا شابا قادما من عالم ما بعد الاستعمار، ولذلك هو غير مستعد لتحمل تبعات كل هذا الإرث؛ فتلك الجرائم بحسبه سقطت بالتقادم، وتنتمي إلى تاريخ ينبغي تجاوزه. لذا كل ما عليه، وعلى الأفارقة أيضا، نسيان هذا الماضي، والمضي نحو المستقبل.
تبقى هذه الأماني والتصريحات للاستهلاك الإعلامي فقط، فماكرون يدرك أن هذه القارة باحة استثمار مستقبلية واعدة، بقوة سكانية تتجاوز مليار نسمة، لا تزال أغلب دولها بحاجة لاستثمارات ضخمة في مجالات البنية التحتية والخدمات. ويدرك أيضا أن منظومة ضخمة من الشركات المشكلة للقوة الضاربة في قطاع الأعمال الفرنسي تعتمد، بشكل رئيس، على استثماراتها في أفريقيا، ولا محل في حساباتها لمثل هذا الخطاب "التقدمي".
في مقابل ذلك، تكشف معطيات الواقع هوس ماكرون بإعادة بسط السيطرة الفرنسية على القارة السمراء، بنهج سياسة استعمارية جديدة، تحل بموجبها كبرى الشركات الفرنسية محل النظام الفرنسي الذي تراجع نفوذه، بعدما فقد سلطة تثبيت الأنظمة الحاكمة وإطاحتها؛ من خلال شراء الولاءات القبلية، وتمويل العصابات المحلية.
يظهر أن سياسة تدفق الشركات لممارسة النفوذ بدل الدولة، قصد إبعاد شبهات النوايا الاستعمارية، خيار غير محسوب العواقب، في نظر خبراء الدبلوماسية الفرنسية. وخصوصا مع تلقي النفوذ الفرنسي في أفريقيا ضربات متتالية، نظرا للصورة المحفورة في الذاكرة التاريخية للأفارقة عن جحافل الشركات الغربية المتدفقة للقارة على مدار أكثر من قرن.
لم يبق أمام ماكرون، إذن، سوى مشجب "محاربة الإرهاب" مدخلا لاستعادة نفوذ بلاده في أفريقيا، الذي أضحى توجها استراتيجيا لفرنسا. لذا لم يتردد في تثبيت وجود بلاده العسكري في المنطقة. فيما كان الحديث؛ طوال فترة ما بعد الاعتداءات الإرهابية المتلاحقة على التراب الفرنسي، يدور عن الانسحاب العسكري من مناطق التوتر.
على هذا الأساس، كثفت الرئاسة الفرنسية من جهودها لتأهيل قوات ونشرها في الساحل، فيما
يعي ماكرون أن هذا الحل، وإن كان يعبد الطريق أمام استعمار جديد لأفريقيا، فهو يبقى معلقا على شرط واقف يتعلق بالتمويل الذي لن ينال الإجماع في الداخل الفرنسي، لما يلقيه من أعباء على الميزانية العامة للدولة، فقد صُنفت فرنسا الدولة الأكثر إنفاقا عسكريا، على مستوى غرب أوروبا، فهي تنفق، منذ سنة 2015، ما يصل إلى مليار يورو على حوالي تسعة آلاف عسكري فرنسي. ولذلك سارع الرئيس ماكرون إلى البحث عن تمويل يساعده على تحقيق هذه الاستراتيجية التي تضمن له الوجود الفرنسي في أفريقيا لحماية المصالح الفرنسية، ويستند عليها من أجل فرض نفسه ضمن نادي الكبار. وفي الوقت نفسه، يتحلل من الالتزامات المالية التي تثقل الميزانية، والمقدّرة بحوالي 420 مليون يورو. وقد نجح في ذلك، حيث حصل على دعم من العربية السعودية قدر بحوالي مائة مليون دولار، ومن الإمارات بنحو ثلاثين مليون دولار. فيما الاتحاد الأوروبي ودول الساحل المعنيان الأساسيان بهذه المخاطر لم يقدما تباعا سوى خمسين مليون يورو، وعشرة ملايين يورو لكل دولة على حدة، بينما تعهدت الولايات المتحدة الأميركية بمبلغ ستين مليون دولار، وفق شروط خاصة ودقيقة.
يتقن ماكرون استغلال السياق العام وتوظيفه لخدمة مصالحه؛ بشكل لم يسبقه إليه أي رئيس فرنسي، حيث وظف بذكاء ونباهة ورقة عدم انتمائه الحزبي، في الداخل الفرنسي كما في الخارج، للتأسيس لمرحلة جديدة في تاريخ الدولة الفرنسية. كما وظف فزّاعة "محاربة الإرهاب" قصد العودة القوية إلى أعماق أفريقيا التي يعتبرها جسرا يعبد طريق بلاده إلى الريادة الدولية، من دون أن ينكشف أسلوبه "الاستعماري الجديد".
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024
03 سبتمبر 2024