بمناسبة الصدور المرتقب لدراسته "جورج حنين ـ ألق الدقة" عن دار "أونوري شامبيون"، حاورته "العربي الجديد" حول طبيعة دراسته المذكورة وسبب اختياره حنين موضوعاً لها، وموقع هذا الشاعر الرؤيوي في المشهد الشعري والسياسي الراهن.
عن مضمون الدراسة، يقول كوبير لنا: "في القسم الأول، أقارب سيرة جورج حنين لتفسير حياته المعقّدة وخط مسار هذا الشاعر المصري الذي تغذّى من الإنسانويات الأوروبية ومن الأدب الكلاسيكي العربي. شاعر فريد وأيضاً مناضل رائي، اختار حنين بحزم القضية السوريالية في العشرين من عمره وبقي وفياً لأفكار أندريه بروتون، حتى بعد تسجيله قطيعة مع حركة هذا الأخير. حياةٌ سوريالية إذاً عاشها بين القاهرة وروما وباريس وأغنت مساراً لا نظير له، إلا ربما مسار الشاعرة جويس منصور، مواطنته.
في القسم الثاني الذي يحتل الجزء الأكبر من الكتاب، أتناول أسلوب نصوصه الشعرية والسردية ومعناها؛ نصوص مفعمة بالأحجيات التي تطرحها على قارئها وبالأفكار المسيّرة داخلها. وفي هذا السياق، أعتبر أن حنين يقع بين كافكا وبورخيس في ما يتعلق بالجانب المجازي الذي لا ينضب لأعماله وببُعدها التأويلي الرمزي. ففكره المُسقَط على شكل نصوص لاذعة ذات صرير، لا يكتفي بإنتاج شرارات فريدة من الدعابة السوداء، بل نراه يسائل الشروط التي يمكن فيها المثابرة على الكتابة والعيش في القرن العشرين.
فهل ممارسة الكتابة ما زالت ممكنة بعد كمٍّ من الخيانات والإنكار؟ وبأي طريقة يمكن أن نرد إلى الحياة فضيلتها وابتسامتها؟ ما أن ننطلق في قراءة "حنين" حتى يتجلى لنا أن الكتابة شكّلت بالنسبة له خشبة خلاص وخمير أملٍ. وقد مارس الشعر والنثر بنفس التطلب والحدة اللذين مارس بهما السياسة، قبل أن يدير ظهره في النهاية للممارستين بضحكةٍ ساخرة".
وحول اختياره لجورج حنين موضوعاً لبحثه، يقرّ كوبير بأن "الاختيار كان سهلاً. فبعد شغفي وهوسي بأعمال أندريه بيار دو مانديارغ، وهو شاعر عاش على هامش الحركة السوريالية، شعرتُ بحاجة إلى تغيير أفقي، فنصحني أحد الأصدقاء بقراءة القصص السورّيالية التي وضعها "حنين"، وكنتُ أجهله كلياً. وفي تلك الفترة، كان من النادر العثور على كاتب قليل الشهرة في فرنسا مثله. ولدى قراءته، تملّكني الشعور بأني اكتشفتُ مركباً شراعياً في قعر البحر، محمّلاً بالكنوز".
وعن علاقات "حنين" بالحركة السورّيالية وأندريه بروتون، يرى كوبير أن "حنين أتى إلى السوريالية عن طريق السياسة. ومع أن السياسة ليست الجانب الأكثر توهجاً في نشاط بروتون، إلا أن هذا ما أعجب حنين فيه. ولفهم ذلك، يجب العودة إلى منتصف الثلاثينات حيث صعود الفاشيات في أوروبا واكتشاف فظائع الاستعمار الغربي للشرق وإفريقيا والرعب الذي كان سائداً في الاتحاد السوفياتي، ناهيك عن تنامي قوة حزب شيوعي فرنسي مقرف وخاضع كلياً لموسكو.
وسيناضل حنين وبروتون من أجل ثورة حقيقية في زمن تمت فيه خيانة الثورات الشعبية وأقدم صديقهما الشاعر رونيه كروفيل خلاله على الانتحار. وبعد تعاونهما مع المجلة الماركسية ـ اللينينية "المتواضعون" التي كان يديرها موريس وولنس، انطلق حنين في تطبيق أساليب الثورة السورّيالية في مصر خلال عهدَي الملك فؤاد والملك فاروق: الصراخ خلال محاضرة "مارينيتي"(رائد "الحركة المستقبلة") في القاهرة؛ إصدار رسائل نارية ومقالات لاذعة ضد المعايير الاجتماعية والجمالية والأخلاقية؛ تنظيم محاضرات ثم إصدار مجلة وتنظيم مَعارض أثارت الدهشة لدى الجمهور المصري.
وجميع هذه النشاطات كانت في تناغم مع مبادئ "الاتحاد الدولي من أجل فن حر" الذي أسّسه بروتون مع دييغو ريفيرا وتروتسكي في مدينة مكسيكو.
وبسرعة، لاحظ بروتون "حنين" كمشاغب وشاعر سوريالي فريد من نوعه، فعيّنه أمين سر الحركة السورّيالية في باريس، إلى جانب هنري باستورو وساران ألكسندريان، وأوكله مهمة الإشراف على تطوير السورّيالية خارج فرنسا وتجنيد أفضل العناصر الشابة التي تحمل القيَم نفسها. وتتجلى أهمية حنين داخل الحركة السوريالية من خلال مشاركة مجموعته المصرية في "معرض السوريالية الدولي" عام 1947.
ومع أنه سيتوقف عن المشاركة في نشاطات المجموعة الباريسية عام 1948، لكن ذلك لن يمنعه من المدافعة عن قيَم السوريالية حتى وفاته المبكرة عام 1973".
أما بالنسبة إلى موقع جورج حنين اليوم، فيعتبر كوبير أن "حنين لم يقع كلياً في طي النسيان. فمعظم أعماله صدرت في مجلد واحد عن دار "دونويل" الباريسية عام 2006. وهو حاضر اليوم في مصر من خلال إشراقاته الشعرية التي تُرجمت ولُصق بعضها على الجدران في القاهرة خلال التظاهرات الشعبية التي أسقطت حسني مبارك.
ونظراً إلى "فن الاختطاف" الذي مارسه ببراعة كبيرة، لا يمكن لـ"حنين" إلا أن يُعجب أولئك الذين ما زالوا يناضلون من أجل تغيير ذهني جذري في العالم. فلُقياته وتأملاته القاطعة يتبادلها الكثيرون اليوم عبر الإنترنت كشعارات وكلمات سرّ. ونشاطه الكبير من أجل فن حرّ، ومطالبته بحقوق المخيلة والحلم ورغبته في الانعتاق، أمور تعكس راهنية فكره.
وفي هذا السياق، تسلّط معظم تحليلاته ضوءاً كاشفاً على بشاعة وتفاهة أولئك الذين يحكمون العالم ويدّعون توجيهه نحو الأفضل، ويتطلبون منا أن نصوّت ونصفق لهم. تأملات حنين في الستينات تعكس برؤيوية عبوديتنا الراهنة. حنين هو في الوقت ذاته ديوجين، الفانوس وأحد آخر الرجال الأحرار".