فجرَ العشرين من شباط/ فبراير عام 1882، رست السفينة البخارية "سعيد" بميناء الجزائر، حاملةً على ظهرها رجلاً حزيناً في الرابعة والستّين من عمره، منهكاً من مرض ذات الجنب والتهابات الرئة المتكرّرة. لم يكن هذا الرجل غير كارل ماركس، ولم تكن زيارته إلى الجزائر سوى زيارة استشفاء وعلاج نصحه بها أطبّاؤه في إنكلترا.
هكذا يستهلّ الكاتب والمترجم الجزائري عبد العزيز بوباكير محاولته لإنهاء ما يعتبرها مغالطات ومبالغات أحاطت برحلة الفيلسوف الألماني (1818 - 1883) إلى الجزائر، بدءاً بسبب الزيارة التي أُشيع أنّها كانت لغرض دراسة الظاهرة الاستعمارية، ووصولاً إلى موقفه من الأخيرة؛ حيث يخصّص بوباكير كتابه "موريسكي في الجزائر: رحلة كارل ماركس إلى الجزائر" الصادر حديثاً عن "دار ميم للنشر"، لتقصّي رحلة ماركس إلى الجزائر وترجمة رسائله التي بعث بها أثناء إقامته فيها إلى ابنتيه وصديقه فريدريك إنجلز، إضافةً إلى مقالاته الثلاثة حول هذه البلاد، والتي كان قد كتبها قبل وصوله إليها بسنوات.
يشير بوباكير إلى أنّ أحداثاً متخيَّلة عدّة رُبطت بزيارة ماركس، مفسّراً ذلك بأنّ كتّاب سيرته لم يولوا اهتماماً خاصا بتلك الفترة من حياته، وأحياناً لا يذكرونها، ربما لأنها لا تُقدّم شيئاً جديداً في فكره، لكنها في المقابل تسمح بتكوين فكرة قريبة عن شخصيته ومزاجه ومشاعره وهو في خريف عمره.
ويُحاول الكاتب تفنيد تلك الروايات، مثل زعم البعض أنّه أقام بمدينة بسكرة، جنوب الجزائر، مشيراً إلى أن بسكرة كانت مقصده بالفعل، وحال دون ذلك تدهور حالته الصحّية وسوء الطقس وطول الطريق وأخطارها، وكتب آخرون أنه سافر إلى مدينة عنّابة شرقي البلاد أو إلى منطقة القبائل. كما يحاول توضيح لبس حول إلقاء السلطات الاستعمارية الفرنسية القبض على أحد المطلوبين غربَي الجزائر أثناء إقامة ماركس في العاصمة، وفصلها رأسه عن جسده؛ موضّحاً أنَّ بالمقصود من الشخص الذي ذكره ماركس هو أحد اللصوص، وليس هو الشيخ بوعمامة قائد إحدى أكبر المقاومات الشعبية في البلاد، والذي كان قد لجأ إلى منطقةٍ قرب مدينة وجدة المغربية، حيث رحل عام 1908.
يمكن للقارئ أن يقف على وجَهين متباينين لماركس، قبل سنة واحدة من وفاته: المفكّر الذي كان موقفه من الاستعمار واضحاً من خلال الرسائل التي كتبها حول الجزائر لـ "الموسوعة الأميركية الجديدة" سنة 1858، وتطرّق فيها إلى الأمير عبد القادر والجنرال؛ ومن بينها واحدةٌ كتب فيها: "منذ السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر وحتّى اليوم، ظلّ هذا البلد البائس حلبة للعنف والنهب ومجازر لا تتوقّف... وإذا جاز لنا الحكم على الشجرة بما تثمره، نقول إنّه وبعد إنفاق مئة مليون دولار تقريباً والتضحية بمئات الأرواح، فإنّ كل ما يمكن قوله عن الجزائر هو أنّها تحوّلت إلى مدرسة حرب بالنسبة إلى جنود وجنرالات فرنسا، تعلّم وتدرّب فيها عسكرياً كلّ الضبّاط الفرنسيّين الذين نالوا أوسمة في حرب القرم".
أمّا ماركس الإنسان الذي وصل إلى العاصمة مريضاً ومرهقاً ومنهاراً بعد رحيل زوجته، والذي بقي فيها معزولاً لمدّة 72 يوماً، لم يستطع خلالها الخروج لاكتشافها إلا مرّات قليلة، فقد كان شديد الاشتياق والرّقة والعطف على ابنتيه وأحفاده من خلال رسائله، بالقدر الذي كان فيه غير قادر على ممارسة أيّ نشاط فكري، فقد عجز عن تدقيق وتنقيح كتابه "رأس المال" لطبعة ألمانية ثالثة، وهو ما قام به إنجلز بعد رحيله، والذي كان يلقّب صديقه بـ "الموريسكي" بسبب "هيئته الشرقية، من قصر في الساقين مقارنةً مع الجذع، وسمرة بشرته".
أمضى ماركس جلّ وقته في الجزائر في كتابة الرسائل، متذمّراً من الطقس البارد، منتظرا شفاءه والطقس الدافئ الذي وُعدَ به. كتب إلى ابنته يوم الخميس 13 نيسان/ أبريل 1882: "ولكن هناك مخاوف بأنّ مايو سيعوّضنا عن عدم مجيء الربيع الجزائري الحقيقي (والذي لم يبدأ إلا بالأمس)، بوصول الصيف مباشرةً، ومعه الحرّ الذي لا يمكن احتماله... وبالنظر إلى غرابة الأشهر الأربعة والنصف الماضية، اللّه وحده يعلم ما تخبّئه الجزائر لنا".