ماذا يريد قيس سعيّد؟
أمام تداعيات الأزمة السياسية التي يعيشها التونسيون اليوم، ويجمع متابعون على أنها الأسوأ منذ الاستقلال (1956)، يمكن اعتبار أن ما صدر عن رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، الاثنين 20 يوليو/تموز الجاري، خلال استقباله رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي ونائبيه، يؤكّد أن الخطر ليس وراء التونسيين وإنما أمامهم، وأن صائفتهم شديدة القيظ خطيرة المفاجآت، فالمشهد البرلماني أضحى منفرا مخجلا، ومهدّدا للسلم الاجتماعي وكيان الدولة ومؤسساتها. إذ يُخشى أن تتجاوز المعركة الدائرة بين نواب حركة النهضة وائتلاف الكرامة من جهة ونواب حزب الدستوري الحر من جهة أخرى جدران مبنى البرلمان إلى الشارع، لتشعل فتيل فتنةٍ بين الأنصار والأتباع، ولا يمكن توقع ما ستؤول إليه الأحداث.
ويتزامن المشهد داخل البرلمان مع تبعات اختيار قيس سعيّد شخصية أقدر لرئاسة الحكومة، إلياس الفخفاخ، بعد سقوط حكومة مرشّح حركة النهضة، الحزب الأول في البرلمان، الحبيب الجملي. والمُجمع عليه أن الرئيس قد يكون أخطأ في اختياره الفخفاخ، خالي الجراب من المؤيدات الانتخابية والسياسية التي تؤهله لهذه المهمة، علاوة على ما علق به من شبهة تضارب المصالح، في ما بات يعرف "الفخفاخ غيت"، وهو ملف أنهى تجربته القصيرة في الحكم، وربما في السياسة أيضا. كانت كلفة اختيار قيس سعيد الفخفاخ باهظة الثمن على جميع المستويات، التونسيون أكبر المتضرّرين منها.
كانت كلفة اختيار الفخفاخ رئيساً للحكومة باهظة الثمن على جميع المستويات
شكّل الفخفاخ حكومته على قاعدة المصوتين لرئيس الجمهورية في الدور الثاني من انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وهم 72% من الناخبين، ما جعل حكومته قابلة للانفجار، تشوبها تناقضات عديدة، عطلت أعمالها، وأفرزت ضعفا برلمانيا لها، سرّع عدم استقرارها، ما عطل الشروع الفعلي في تحقيق برامج الانتظارات الشعبية التي أعلن عنها رئيس الحكومة نفسه في خطاب منح الثقة، وقد ظلت برامجها حبرا على ورق، بل كانت نتائجها، على عكس المتوقع، سياسات تقشفية، ورفعا مشطّا في الضرائب، وارتفاعا غير معهود في كلفة المعيشة، وعجزا واضحا في تنفيذ خطة الإنقاذ الاقتصادي والإصلاحات الكبرى، وذلك بشهادة تقرير البنك الدولي الذي لاحظ أن عدم الإسناد السياسي القوي للحكومة كان سببا في تعطل الإصلاحات الكبرى والإرباك الاجتماعي وارتفاع نسبة الفقر والمعطّلين من العمل. ولا يستبعد متابعون أن تلك اللقاءات الدورية بين رئيسي الجمهورية والحكومة كانت تدار بسرديات نظرية عامة، يُكتفى فيها بتذكير رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر التي اختارها بضرورة احترام فصول الدستور، والعمل على تلبية احتياجات الشرائح المعوزة من الشعب، وذلك كله في غياب المتابعات الدقيقة والواقعية لسير عمل الحكومة. وتجمع الأحزاب والنخب المدنية والفكرية على أن الأزمة تزداد اليوم، بجنوح رئيس الجمهورية، مرّة أخرى، في اختيار رئيس الحكومة الجديدة، إلى المغالبة والتصلب في اعتماد الصلاحيات الدستورية. وقد كان التشدّد الذي أبداه في أحقيته في الاختيار وفقا لهواه سببا في فرض إلياس الفخفاخ رئيسا للحكومة، على الرغم من انتقادات كثيرة من أغلب الأحزاب، باعتبار أن الرجل لا وزن سياسيا له، ولم يحقق، وحزبه (التكتل من أجل الديمقراطية والحريات) شيئا في الانتخابات التشريعية والرئاسية. ويقول هؤلاء إن الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية وضعت أساسا لكي يمارس الشعب عبرها رأيه واختياراته في من يحكم، ولكن سعيد يستفرد بتحمّل المسؤولية كاملة وحده ووقف في صف مقابل الجميع".
شكّل الفخفاخ حكومته على قاعدة المصوتين لرئيس الجمهورية في الدور الثاني من انتخابات أكتوبر 2019، وهم 72% من الناخبين، ما جعل حكومته قابلة للإنفجار
جاء تهديد قيس سعيد بالصواريخ المنتصبة على منصات إطلاقها، من دون الإفصاح عن الآليات الدستورية المخوّلة له، في لقائه الغنوشي، مشفّرا، لكن القراءات الدستورية ترى أن رئيس الجمهورية قد يلجأ إلى الفصل 80 من الدستور، والذي يمكّنه، في حال "هناك خطر داهم مهدد لأمن البلاد يسفر عن تعطل السير العادي لدواليب الدولة.."، وقد اعتبرت أستاذة القانون الدستوري، سلسبيل القليبي، أن هذا التوجه خطير جدا. ويخوّل الفصل هذا في الدستور لرئيس الجمهورية التدخل في مجال المشرّع، وفي اختصاصات رئيس الحكومة، واتخاذ جميع التدابير، مهما كانت طبيعتها، بما في ذلك تعليق العمل بمبدأ "الفصل بين السلط"، ما يعني وضع كل السلطات بيد رئيس الدولة. أي في وسعه اتخاذ إجراءات استثنائية، كما فعل في حظر التجوّل إبّان بدء جائحة كورونا، ما سيؤدي الى تعطيل مؤسسات الدولة، بما فيها مجلس نواب الشعب، واللجوء الى القضاء العسكري والقوات العسكرية، وليس القوات الأمنية بصفته القائد العام للقوات المسلحة، فيصبح الجيش هو من يطبق النظام في كل الأماكن.
تلميحاتٌ قد تفجر نوستالجيا النظام الرئاسي، في صيغة حركةٍ تبشيرية يقودها الرئيس، مع مريديه الداعين إلى تعليق العمل بالدستور والبرلمان وإحياء النظام الرئاسي
راكم الإعلان المبهم من رئيس الجمهورية، وهدّد فيه باللجوء للصواريخ المنتصبة، تلميحات صدرت عنه، في مناسبات عديدة، من قبيل التآمر على الدولة، من دون الإفصاح عن الجهات المتآمرة، وهي تلميحاتٌ قد تفجر نوستالجيا النظام الرئاسي، في صيغة حركةٍ تبشيرية يقودها الرئيس، مع مريديه الداعين إلى تعليق العمل بالدستور والبرلمان وإحياء النظام الرئاسي الذي أقرّه دستور 1959 منتهي الجدوى والصلاحية سنة 2011. ويستمد هذا الحنين شرعيته من عدم استقرار النظام البرلماني المعدّل الذي ارتضاه المجلس الوطني التأسيسي، ولما اتسم به البرلمان الحالي من ضعفٍ وصراعاتٍ حزبيةٍ ومناكفات سياسية، مع فشل واضح لحكومات ما بعد الثورة في تحقيق الشعارات التي رفعتها، ما حوّل هذا الحنين إلى نظام رئاسي، ذي صلاحيات مطلقة، إلى مشترك يسكن اللاوعي الجمعي لكل التونسيين الذين أخذوا يتساءلون: ماذا يريد الرئيس؟