بشعار "الأرض لمن يُبدع فيها" يُواجه سكان قرية "تونس" المصرية محاولات تغوّل الأجهزة الحكومية، التي بدأت خلال الأيام الماضية بهدم بعض مساكنهم وورش عملهم، بدعوى أن الأراضي المقامة عليها ملك للدولة.
القرية التابعة لمحافظة الفيوم، والواقعة على بُعد 120 كيلومتراً جنوب القاهرة، وتشتهر بصناعة الخزف والفخار وهندستها المعمارية الفريدة وطبيعتها الساحرة، يقيم فيها عدد كبير من الكُتاب والفنانين المصريين والأجانب الهاربين من ضجيج المدينة وقسوتها لبراح الطبيعة وجمالها.
تأتي أزمة "قرية تونس" عقب مُطالبة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للأجهزة الحكومية بضرورة استرداد أراضي الدولة في كافة المحافظات وإزالة التعدّيات عليها. في هذا السياق، يقول الفنان التشكيلي محمد عبلة مؤسس "متحف الكاريكاتير" في قرية تونس وأحد ساكنيها لـ"العربي الجديد": "هذه الأرض ملك لأصحابها الذين لم يروا غيرها، ويطالبون بتقنين أوضاعهم منذ أكثر من 30 سنة".
ويضيف: "منفّذو القرار لم يستوعبوا خطورة ما يقدمون عليه، ولم يُدركوا الآثار التي قد تترتّب عليه، أهل القرية أفنوا عمرهم فيها وجعلوها جنة، ولم تُقدّم لهم الدولة أي شيء، فلا يوجد نادٍ رياضي ولا وحدة صحية ولا مكتب للخدمات الاجتماعية، ومع ذلك فقد وفر أهل القرية كافة احتياجاتهم عبر تضامنهم".
يتابع عبلة: "لا يُوجد شخص في القرية يمتلك أكثر من خمسة قراريط؛ فكيف يتحدّثون عن الاستيلاء على أراضي الدولة، تونس قرية نموذجية، وكل عام تزيد فيها الرقعة الزراعية، وأهلها مسالمون ويدفعون كافة الالتزامات التي عليهم تجاه الدولة من قيمة إيجارية لهذه الأراضي وفواتير الكهرباء والمياه والضرائب إلخ، وقد طالبنا مراراً من المسؤولين أن يبيعوا هذه الأراضي للناس، وبدأوا معنا في التفاوض حول بيع المتر على ثمن جنيه واحد فقط منذ عشرين عاماً حتى صار اليوم بـ 500 جنيه، ونحن نطالبهم ببيع الأراضي لإنهاء هذه الأزمة".
يُواجه سكان "قرية تونس" مشكلة أخرى تتعلق بسعي المحافظة لإنشاء نقطة شرطة كبيرة داخل القرية، بدعوى تأمين السائحين القادمين للقرية، وهو ما يعتبره السكان تدميراً متعمّداً لطبيعة القرية الريفية وتركيبتها السكانية، فالقرية التي تُعد واحدة من أبرز المزارات السياحية في مصر خلال العقود الماضية، لا تُعاني من أي أزمات أمنية.
واعتراضاً على هذه الإجراءات الحكومية أغلق العديد من سكان القرية ورش عملهم، وأعلنوا إضرابهم عن العمل، وأطلقوا حملة للتضامن معهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وطالبوا أجهزة الدولة بمراجعة قراراتها والتحاور معهم للبحث عن بدائل وحلول لهذه الأزمات.
من جانبها، تقول منى برنس أستاذ الأدب الإنكليزي في جامعة السويس: "أنا واحدة من سكان القرية، وتونس قرية ريفية، وأهلها يديرون حياتهم بصورة رائعة بعيداً عن الدولة، والسياح القادمون للقرية لا يحتاجون للشرطة، وإذا كان الأمر ضرورياً وحتمياً، يمكنهم بناء نقطة الشرطة خارج القرية، وعلى الدولة إدراك أن سحر وخصوصية القرية في حفاظها على طبيعتها الريفية، وبالتالي محاولة الحكومة لتحويلها إلى قرية سياحية ستُدمّر القرية وتجعل السائحين يُعرِضون عن القدوم، لأنهم لن يجدوا فيها الطبيعة والحياة الهادئة والبسيطة التي يبحثون عنها".
بجانب طبيعتها وجمالها توجد نقاط أخرى تُميّز "قرية تونس" كونها نموذجاً لمجتمع تعاوني قادر على تحقيق التنمية الذاتية بعيداً عن هيمنة الدولة وسلطتها، فالقرية الواقعة على ضفاف بحيرة قارون، بمساحة 600 فدان ويعيش بها أربعة آلاف ساكن، يقوم اقتصادها على مزيج من الأنشطة المتنوعة بين الزراعة والصناعات الخفيفة والأنشطة ذات الطابع السياحي أو الثقافي، فتوجد بها مدرسة لتعليم صناعة الخزف، وعدد كبير من ورش الصناعات والحرف التراثية، ومجموعة من الفنادق الصغيرة التي تُوفر لروادها فرصة الاستمتاع بالطبيعة، مع وجود مساحات واسعة من الأراضي الزراعية بالإضافة لعدد من المراكز الثقافية حيث يُوجد متحف لفن الكاريكاتير والعديد من مراسم الفنانين التشكيليين.
بدأت قصة "قرية تونس" في منتصف ستينيات القرن العشرين، عندما قررت الفنانة السويسرية إيفلين بوريه أن تُقيم هناك مع زوجها الشاعر المصري سيّد حجاب. كانت القرية حينها تحتوى على عشرات البيوت البسيطة، وبدأت الفنانة في تدشين مدرسة لصناعة الخزف والفخار داخل جزء من منزلها، وعلى مدار العقود الماضية تحوّلت القرية إلى متحف مفتوح، مع توافد العديد من الكتّاب والفنانين ونشأ تدريجياً نموذج مجتمعي جديد بالتعاون مع سكان القرية، وأصبح لمنتجات "قرية تونس" اسم تجاري يُشير للجودة والإبداع وتجاوزت شهرتها مصر مع تصدير منتجاتها إلى العديد من الدول الأوروبية.
ورغم انفصال إيفلين عن سيد حجاب، وزواجها من الفرنسي ميشيل باستورلي، ظلت تُقيم هي وأسرتها في القرية، تتحدث إيفيلن أو "أم أنجلو" - كما يناديها سكان القرية - العامية المصرية بطلاقة (أنجبت خلال سكناها القرية ولداً وبنتاً هما أنجلو وماريا).
تقول إيفلين: "هل طالب السيسي الحكومة بهدم الورش وتشريد الفنانين وتدمير السياحة؟ الدولة لا تقدّم للناس هنا أية خدمات، ومع ذلك نُحاول أن نجد بدائل ونطوّر القرية، ونُقدّم نموذجاً ناجحاً، المفروض أن الدولة تدعمنا وتشجعنا، لكن للأسف يحدث العكس".
ضمن هذا الحراك، عقد سكان القرية مجموعة من اللقاءات مع بعض أعضاء مجلس الشعب وتواصلوا مع وزير التنمية المحلية وعدد من المسؤولين الحكوميين، في محاولة لحل هذه الأزمات، بينما غابت وزارة الثقافة المصرية عن المشهد، وكأنّ الأمر لا يعنيها، رغم أن الأزمات والتحديات التي تواجه "قرية تونس" تتعلق بعشرات الكتّاب والفنانين والمبدعين المصريين وبصناعات ثقافية مهمة.
تأتي أزمة "قرية تونس" بالتزامن مع رحيل أحد أشهر من أقاموا فيها، المترجم المتعرّب البريطاني دنيس جونسون ديفز قبل أسبوعين عن 95 عاماً، والذي شيّعه أهالي القرية. خلال مسيرته الطويلة، نقل جونسون ديفز إلى اللغة الإنكليزية عشرات الأعمال الأدبية المصرية والعربية، بالإضافة إلى ترجمته للقرآن الكريم والسيرة النبوية، وقد أوصى بأن يُدفن في القرية التي عشق جمالها وطيبة أهلها.