ماذا تعلّم السوريون من درس الانقلاب التركي؟

31 يوليو 2016
كانت ليلة الانقلاب عصيبة على الشعب السوري (Getty)
+ الخط -
لقد كانت ليلة عصيبة، تلك التي شهدت محاولة للانقلاب العسكري على الحكومة الشرعية المنتخبة ديمقراطياً في تركيا، ليس على الأتراك فحسب، بل على جميع المؤمنين بالخيار الديمقراطي، ومن بينهم الشعب السوري الذي يناضل منذ أكثر من 5 أعوام للتخلص من أحد أسوأ الأنظمة الديكتاتورية الدموية في العالم، وبناء دولة مدنية تحكمها الإرادة الشعبية لا الجيش أو أحد قطاعاته.


إن المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، تنطوي على العديد من الدروس، منها ما يتعلق بحقيقة أنها كادت تطيح بأفضل تجربة ديمقراطية في شرقنا الإسلامي والعربي ومعها أفضل تجربة اقتصادية وتنموية وضعت تركيا في مصاف الدول الكبرى في هذا الإطار، ومنها كذلك ما يتعلق بحقيقة الفشل الذي منيت به تلك المحاولة، ما يستدعي من المراقب، ولا سيما في الحالات العربية المستعصية وعلى رأسها الحالة السورية، البحث في عوامل فشل الانقلاب بتركيا والقدرة على صون إرادة الناخب التركي وحماية دولة المؤسسات حتى مما يسمى بالدولة العميقة وأيضاً ما بات يعرف بالدولة الموازية.

مثلت التجربة التركية على الدوام استراتيجية "التغيير من داخل النظام"، أي العمل على تغيير الأوضاع السياسية وما يتبعها من أوضاع اقتصادية وإدارية وغيرها عبر الاندماج مع المنظومة القائمة، الأمر الذي يمكن من تغييرها هيكلياً تدريجياً، وأيضاً يفضي إلى تغيير جوهري وجذري بأقل تكلفة ممكنة، لأنه لا يعتمد على التغيير المفاجئ ولا يستثير -غالباً- أقطاب الدولة العميقة والطبقة البيروقراطية، القادرة من خلال موقعها في حال تكاتف أفرادها على إفشال أي رأس للسلطة مهما بلغت قوته.

خيار "التغيير من داخل النظام" قد لا يكون مضمون النتائج دوماً، كما أنه ليس الخيار المثالي في جميع الأحوال، ففي حالة الربيع العربي مثلاً كانت الأمور قد بلغت ذروتها من الاحتقان الشعبي إزاء الأوضاع المتردية واستمرار الأنظمة السلطوية بممارسة الاستبداد والفساد والاستعباد في كثير من الأحيان، وحينما وقع "الانفجار" لم تكن الشعوب قد استأذنت أحداً، ولم يحدث بناء على خطة مسبقة، التي تناقض مفهوم الانفجار أصلاً، وبما أن الشعوب قد عبرت عن نفسها أبلغ تعبير في الانتفاض على حكامها لم يبق أمام العاقل خيار سوى أن يكون جزءاً من الموجة الشعبية الأكيدة في وجه الطغاة المجرمين.

وكذلك خيار "التغيير من داخل النظام" يتطلب هامشاً مهماً كان ضئيلاً من الديمقراطية، وأوضاعاً مستقرة سياسياً واجتماعياً، كتلك التي شهدتها تركيا خلال السنوات التي سبقت صعود العدالة والتنمية، وإلا تحول هذا الخيار إلى عبث وربما اتصف بالخيانة إذا تزامن مع القمع الدامي لثورة تحرر شعبي.

في جميع الأحوال، أثبتت استراتيجية "التغيير من داخل النظام" في الحالة التركية، وفي ظل شروطها الموضوعية، جدواها وجذرية مآلاتها و"فاعلية الصعود المتدرج"، وهو ما تؤكده سلسلة النجاحات التي حققها حكام تركيا الجدد، من تغيير بوصلة سياستها الخارجية إلى حد كبير، وإنهاء وصاية الجيش على المشهد السياسي التركي، والنهضة الشاملة التي شهدتها جميع قطاعات الدولة، فيما تأتي المحاولات المتتالية للإطاحة بحكومة العدالة والتنمية من قبل المستفيدين من الأوضاع السابقة لتؤكد أن "تركيا تغيرت"، وهو أحد الشعارات الشعبية لأنصار العدالة والتنمية.

أما فشل محاولة الانقلاب، والدروس المستفادة منه، فهي مسألة تكتسي أهمية كبرى، نظراً لاتساع رقعة المحاولة الانقلابية ومشاركة قيادات كبرى من الجيش فيها، والدعم الخارجي الكبير الذي لا تخطئه العين، قبل وبعد وأثناء تلك المحاولة، الأمر الذي يقتضي منا دراسة مستفيضة لعوامل فشل الانقلاب، بما ينعكس على تعاملنا مع الأوضاع المستقبلية في سورية وسائر بلاد الربيع العربي بعد أن تبدأ مرحلة إعادة بناء الدولة من جديد. ولأن المقام لا يتسع لتلك الدراسة المستفيضة، فلنمر سريعاً على بعض أهم دروس فشل الانقلاب التركي.

أظهرت مجريات الأمور في تركيا "محورية" دور أجهزة الأمن والاستخبارات -إذا أحسن تدريبها وتوظيفها وتحديد مهامها في الإطار الوطني- في ضبط الأمور وفرض السيطرة الحكومية على التحركات الانقلابية، إذ لا معنى للانقلاب ولا نجاح له بدون السيطرة على المباني الحكومية الرئيسية والمرافق الحيوية، واعتقال رموز السلطة القائمة، وهو ما لقي مقاومة شرسة من قبل الشرطة والأمن والاستخبارات والقوات الخاصة، وظهر ذلك جلياً في إفشال محاولة اعتقال أو اغتيال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أولاً من خلال المعلومات التي وفرتها الاستخبارات، وثانياً من خلال مقاومة المهاجمين وإفشال عملية اقتحامهم للفندق الذي كان أردوغان قد نزل فيه.

ويضاف إلى دور الأمن دور الإعلام الحر، وحرية الإعلام هنا عنت بالضرورة الانحياز إلى الحرية من الاستبداد بكل أشكاله وإلى الشرعية الناتجة عن انتخابات ديمقراطية مثلت قرار الشعب وإرادته، على الرغم من علاقة السجال والصراع الإعلامي الذي كان يربط بعض وسائل الإعلام المعارضة بالحكومة والرئيس. وقد أظهر توحد الإعلام التركي في عدم دعم الانقلابيين ضعف وهشاشة تحركاتهم رغم أنها كانت محكمة أكثر مما بدا في بداية الأمر، وهو ما ساعد في نهاية المطاف على إفشال الانقلاب.

وإذا كان الأمن والإعلام بمثابة اليد والقدم واللسان لتحصين الديمقراطية، فإن العلاقات والتحالفات هي الدرع الخارجي الواقي من رصاص المؤامرات، وهي وإن كانت أمراً خارجياً إلا أنها تبقى عاملاً حاسماً في التأثير على المشهد الداخلي، وفي ظل عالم شديد العولمة، ومحكوم بنظام دولي شديد التعقيد، فإن التحالفات الخارجية لا يمكن أن تكون ترفاً ولا يجوز التفريط بها، وهو ما بدأت حكومة العدالة والتنمية تعمل عليه منذ الانتخابات الأخيرة، ساعيةً لترميم "ما يمكن" ترميمه وتصفير "ما يمكن" تصفيره من مشاكل.
المساهمون