ماذا تبقى من فلسطين؟

30 يوليو 2017
+ الخط -
أتخيّلُ جدّي ينهض من قبره، مرتديًا القمباز والحطّة البيضاء، يعتلي حصانه ثم يذهب نحو الشرق حيث تقع أرضه. هناك، زرعَ أشجار الزيتون واللوز والرمّان، وبنى السقائف من حجارة الأرض، ووضع فيها جرارًا للنحل. قال لي أبي إنّ جدي قد تنبأ بمصير أرضه بعد أن سيطر اليهود على قمة الجبل المقابل، ووضعوا فيه ثلاث كارفانات. كان يعرف أن المستعمرة ستتوسّع بمرور السنوات، لتلتهم المزيد من الأراضي.

بينما كانت القرية تنير بيوتها بمصابيح الكاز، كانت المستعمرة مشتعلة بلمبات الكهرباء، ثم راحت أبنيتها العصريّة، المنظّمة، بحجرها الأبيض وقرميدها، تزحف على قمة الجبل حتى وصلت إلى قمم الجبال الأخرى. الشوارع النظيفة، البرّاقة، تتوزع داخل المستعمرة، وعلى جانبيها صفوف من الأشجار كثيرة الفروع. الأعلام الإسرائيلية، بنجمة داود التي تتوسط خطّين أزرقين، يُحيلان إلى نهري النيل والفرات، ترفرف فوق أعمدة الكهرباء عند مدخل المستوطنة، وفوق أبراجها.

كنت أقول لنفسي، كلما ذهبت إلى أرضنا، ونظرت إلى المستعمرة، إن هذه المستعمرات جزء من إسرائيل، بل هي إسرائيل الأيديولوجيا، حيث السّعي الدؤوب للتوسع في الأراضي العربية عبر استعمارها.

بعد سنوات، اقتربت المستعمرة أكثر من أرضنا.


ذات صباح، سمعنا طرقًا عنيفًا على باب الدار. أخبرنا أحد الأهالي أن الجرّافات تقتلع أشجار الزيتون من أرضنا، لإقامة شارع أمني جديد حول المستعمرة. ركضت كل القرية إلى هناك، وحين رأيت الجرافة الإسرائيلية تجرف أرضنا، وتقتلع أشجار الزيتون، شعرت أن قلبي قد تم اقتلاعه. رأيت أبي يقف أمامها محاولًا منعها من الوصول إلى أشجارٍ أخرى، بينما كانت أمي تعانق الشجر المقلوع. جذورها خرجت فوق التربة، والغصون المكسورة تهدّلت إلى الأسفل، منظرها وهي محنيّة بعد أن  ظلّت شامخة طيلة عقود، تدفع المرء إلى الكفر.

منذ تلك اللحظة، أصابت أبي كل الأمراض التي يمكن تصورها: السكّري، ضغط الدم، ضعف في الرؤية والسمع، وجع المفاصل، وأمراض القلب. كان يموت في اليوم ألف مرة، وهو يرى الأرض التي أحبها وعاش من أجلها، تضيع سنة بعد سنة. هؤلاء الغرباء القادمون من أوروبا، يستوطنون أرض أجداده، ويحاولون السيطرة على كل شيء. ذات يوم، هجم مجموعة من المستوطنين وأحرقوا جزءًا من أرضنا، حتى أطفالهم، أمسكوا بأتاننا الطيبة. يا الله، كيف عانقوها وأمسكوها من رسنها وسحبوها. كانوا يصرخون: إنها لنا، إنها لنا. حتى الحمير لم تسلم من أكذوبتهم.

في كل مرة، يجلس فيها والدي على سطح منزلنا، ويرى فيها أضواء المستعمرة، كان يقول: ماذا تبقّى من فلسطين؟ حينها كنت أنظر إلى أضواء المستعمرات المنتشرة على قمم الجبال وأعدّها، فأجدها أكثر من أضواء القرى الفلسطينيّة، فأقول لنفسي إن المستوطنات، التي لم تكن تقلقنا، أصبحت أكثر القضايا خطورة، إنها كارثة. وظلّ هذا السؤال يتردد في رأسي، كلما رأيت أضواء المستعمرة من نافذة غرفتي: ماذا تبقّى من فلسطين؟

30FDE9DA-159F-4978-B484-1CE97B6372D9
محمد جبعيتي

كاتب من فلسطين. طالب ماجستير لغة عربية في جامعة بيرزيت، لديه روايتان منشورتان: "المهزلة" و"رجل واحد لأكثر من موت" عن دار الفارابي في بيروت.