ماذا بقي من انتفاضة أكتوبر 1988 الجزائرية؟

08 أكتوبر 2017
لم تدم تجربة التحوّل الديمقراطي أكثر من ثلاث سنوات(Getty)
+ الخط -
ماذا بقي من انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، هذا هو السؤال الذي يعود مع عودة ذكرى الربيع الديمقراطي في الجزائر، ولا يُطرح هذا السؤال إلا في سياق العلاقة مع الراهن السياسي الذي انتهت إليه الجزائر بعد 29 عاماً من تلك الانتفاضة، ومع الإجهاز على الطفرة الديمقراطية التي عاشتها الجزائر بين أكتوبر 1988 حتى يناير/كانون الثاني 1992.

لم تكن أحداث أكتوبر 1988 "شغب أطفال" كما وصفتها السلطة حينها، لكنها كانت انتفاضة ضد منظومة حكم أوصلت البلاد إلى حالة ارتباك سياسي وإفلاس اقتصادي. قبل انهيار المعسكر الشرقي في أوروبا الشرقية، كانت الجزائر قد صنعت ربيعها السياسي بعد عقدين ونصف من الأحادية الحزبية، وسبقت بأشهر قليلة تلك التحوّلات الدرامية في الجزء الشرقي من أوروبا. لكن هذه الدول، أوروبا الشرقية، عادت لتسبق الجزائر قياساً بنجاحات نسبية حققتها في غضون ربع قرن، على صعيد الإصلاح السياسي والاقتصادي ومراجعة عميقة لمنظومة الحكم، دفع بها إلى صدارة المشهد الأوروبي كالحالة البولندية، على الرغم من أن الجزائر كانت تملك أكثر من غيرها، مقوّمات التحوّل السياسي والاقتصادي بغض النظر عن عوامل إقليمية لعبت لصالح دول أوروبا الشرقية.

يصف الباحث والناشط السياسي محمد أرزقي فراد، تلك المرحلة بالقول: "5 أكتوبر 1988 بمثابة بارقة الأمل للشعب الجزائري المثقل بسنوات الأحادية، كان ربيعاً جزائرياً تزامن مع ربيع أوروبا الشرقية، كان ربيعاً رائداً في العالم العربي، اشرأبت إليه الأعناق تنتظر ميلاد أول نظام ديمقراطي، بعد فشل تجربة الدولة الوطنية المعسكرة في تحقيق الحرية والتقدّم".

لم تدم تجربة التحوّل الديمقراطي في الجزائر أكثر من ثلاث سنوات، فعام 1990 كانت الجزائر قد دخلت مرحلة الشد، خصوصاً بين التيار الإسلامي والسلطة التي كانت تحاول مبكراً الالتفاف على المسار الديمقراطي. ويرى الباحث فراد أن غياب إرادة سياسية جدية في تحقيق التحوّل الديمقراطي، هو الذي أفشل مسار أكتوبر، معتبراً أنه "كان من الممكن أن ينجح الربيع الجزائري كما نجح ربيع أوروبا الشرقية في وقت مبكر لو توفرت الإرادة السياسية، وهي شرط ضروري لكل تحوّل سياسي صادق، فغياب هذا الشرط جعلنا نتجنّب منطق الطفرة في التغيير". لكن فراد لا يلقي باللوم في الإخفاق السياسي على السلطة، لكنه يلقيه في الوقت نفسه على المعارضة السياسية، معتبراً أن "المعارضة كان لها نصيبها من المسؤولية في هذا الإخفاق، حين اختزلت الديمقراطية في تأسيس أحزاب سياسية ودخولها مجال المنافسة على عجل، من دون المرور بمرحلة انتقالية سلسة".

يشير فراد بوضوح إلى أن التحوّل الديمقراطي في الجزائر لم يكن ليتم بقرار السلطة التي فاجأتها انتفاضة أكتوبر، في ظل غياب المؤسسات الداعمة والمنوط بها إنجاز هذا التحوّل، إذ انفردت السلطة التي كانت تدير مرحلة الأحادية الحزبية بصياغة الدستور الجديد لمرحلة التعددية السياسية من دون انعقاد مجلس تأسيسي توافقي يشمل كافة الأطراف السياسية والمدنية الممثلة للمجتمع. كما احتفظت السلطة بذات مؤسسات المرحلة السابقة، كالبرلمان والحكومة وجهاز إدارة الانتخابات في وزارة الداخلية، من دون أن تنتبه قوى المعارضة إلى المطالبة بمرحلة انتقالية تنتهي خلالها المنظومة السياسية للسلطة، ويُعاد تشكيلها على أساس محددات مرحلة ما بعد أكتوبر. ولم تكن تلك أولويات المعارضة، بقدر ما كان توجهها نحو مسار انتخابي هامشي لم يكن يعبّر عن عمق الأزمة الكامنة في الجزائر الدولة والمجتمع، ولم يكن ذلك المسار حينها أولوية مقارنة مع أولوية بناء النص الديمقراطي الذي يؤسس لإعادة تنظيم الدولة على أساس شفاف، ويقطع مع ممارسات ودولة ما قبل أكتوبر، ويحرر المؤسسة الإعلامية والصحافة التي تدين لأكتوبر بهامش الحريات التي اكتسبتها بشكل نسبي حتى الآن.


يعتقد كثيرون أن الممارسة السياسية في الجزائر قبل أكتوبر 1988، لم تكن تتيح لكوادر الأحزاب والتيارات السياسية المحظورة العمل أو تلقي التشكيل الميداني الذي يساعد على تأطير المسار الديمقراطي لاحقاً، وهو ما لم يمنح القوى السياسية فكرة ترتيب أولويات المرحلة. في المقابل كانت السلطة عبر المؤسسة السياسية وجهازها الحزبي، "جبهة التحرير الوطني"، والمؤسسة الأمنية المتدخّلة في الشأن السياسي حينها، أكثر استعداداً، كما أن الانفجار الحزبي في البلاد مع وصول عدد الأحزاب السياسية إلى أكثر من 70 حزباً، إضافة إلى التفتت السياسي بين هذه الأحزاب، عوامل ساعدت السلطة على إدارة معركة التحوّل السياسي بأقل كلفة من التنازلات.

ومثلما لم تنجح القوى السياسية ما بعد أكتوبر 1988 في فرض إطار لحماية المسار الديمقراطي، لم تنجح في الحد من تلاعب السلطة نفسها بهذا المسار الذي استُدرج بكامله إلى أتون العنف السياسي في التسعينات، خصوصاً بعد جنوح أو استدراج جزء من الإسلاميين إلى ممارسة العنف، وهو المناخ الذي كانت تتطلع إليه السلطة، للإجهاز سريعاً وفي غضون ثلاث سنوات على المنجز الضئيل من الديمقراطية والحريات التي حققتها انتفاضة أكتوبر 1988.

تلك الطفرة من الحريات السياسية والديمقراطية التي عاشتها البلاد من أكتوبر 1988 حتى ما قبل تدخّل الجيش ووقف المسار الانتخابي، لا تزال محفورة عميقاً في ذاكرة الجزائريين، وهي مرحلة يصفها الصحافي نصر الدين بن حديد بـ"فسحة سياسية وحلم مر سريعاً، غمرته لاحقاً التحوّلات الدرامية التي شهدتها البلاد في التسعينات"، بعد استرداد العسكر لزمام المبادرة والقرار. وبعد كل تلك المرحلة المتناقضة، يخصم ما تبقى من منجزات أكتوبر من راهن الوضع السياسي الذي انتهت إليه البلاد، مع أزمة الحريات وهشاشة المؤسسة الديمقراطية وتراكم الإخفاقات السياسية والاقتصادية التي تحاصر الجزائر، في ظل ما يصفه بن حديد بـ"أزمة النظام البنيوية العميقة"، في إشارة إلى الارتباك السياسي الحالي نفسه الذي كان يطبع سلوك المؤسسة الرسمية عشية أكتوبر 1988، ناهيك عن تجدد أزمة النفط وتأثيراتها الاقتصادية بالقدر نفسه الذي خلّفته أزمة عام 1986.

المساهمون