مئوية لبنان.. قبل أن يغدو تاريخاً

13 سبتمبر 2020
من إعلان دولة "لبنان الكبير" عام 1920 (Getty)
+ الخط -

يحتفلون الآن، على شاشات تلفزيونٍ، وفي مرافق فنّيةٍ وثقافية شبه صامتة أيام كورونا، وفي مؤسّسات الدولة، رئاسة الجمهورية بخاصة، بمرور مائة سنة على قيام لبنان على النحو الذي نعرفه اليوم، لبنان الذي أُضيفت آنذاك إلى الجبل الذي تسمّى به "جبل لبنان" مدن الساحل والجنوب وطرابلس وعكار والبقاع. إنها مائة سنة على إعلان 1920 للبنان الكبير، لا على استقلاله الذي انتُظر إعلانه 23 سنةً إضافية، واقتضى تحقيقُه جلاء الجيش الفرنسي الذي كان سلطة انتداب بل واحتلال. في عام 1920 إثر الانتداب الفرنسي على لبنان، أعلنت السلطة المنتدبة قيام لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي.

قد يذكر اللبنانيون نتفاً من حكاية الاستقلال التي شملت سجن المسؤولين اللبنانيّين الذين أعلنوه عام 1943. هذه، على الرغم من كونها مجال جدل وتنازع إلى اليوم، لا تزال حاضرة إلى حدّ ما في أي محاولة لتأسيس تاريخ راهن للبنان. لكن مائة سنة على إعلان لبنان الكبير ليست بالدرجة نفسها في الذاكرة، بل هي إذا استُعيدت بتضاعيفها ستعود معها النُّسَخ الأسبق للنزاع الأهلي. ستبدو المناسبة نفسها اليوم بدون صاحب. في حينه كان الأمر يعني إضافة قدر من المناطق المُسلمة في الغالب والتي منحت الجبل ساحلاً وسهولاً. 

لم يكن هذا بالطبع تمنّي المسلمين ولا وجهتهم. كانت الوحدة مع سورية هي متمنّاهم لا الانضمام إلى الجبل والانعزال عن المحيط الإسلامي. هذا ما كان عليه مسلمو هذه المناطق بشيعتهم وسنّتهم. كان لبنان الكبير في ذلك الحين هو لبنان المسيحي، لبنان الانتداب الفرنسي. هذا بالطبع تاريخ بائد؛ فالمناسبة لم تعد تعني المسيحيّين بالدرجة نفسها. هم الذين أسّسوا لبنان ما لبثوا أن اضطرّوا إلى الانزواء فيه، وقبول غلبة إسلامية لا مناص منها.

كان لبنان الكبير في ذلك الحين هو لبنان الانتداب الفرنسي

مع ذلك تعني المناسبة للمسيحيّين تأسيساً لبلد كانوا بالفعل مؤسّسيه، كما تعني بداية تاريخ كانوا أصحابه وكان، على أي نحو، تاريخهم، ومهما صار أو تحوَّل يبقى تاريخهم، والعودة إليه عودة إلى لبنانهم. إنه وثيقة حقيقية وشهادة أكيدة لهم. قد لا تبدو الآن بأهميتها الأولى؛ فقد عدا الزمن عليها، لكنها في السجال الثقافي للعلاقات الطوائفية دليل دامغ وحق تاريخي. بالطبع لم يعد المسلمون اللبنانيّون ملحقين بالجبل. لقد عدت كالعادة حروب أهلية على المسيحيّين الذين قلّما ربحوا حرباً أهلية. تجاوز المسلمون التفوُّق الديمغرافي المسيحي آنذاك، ليس هذا فحسب، لكنهم ربحوا على المسيحيين أكثر من حرب أهلية، والآن يتنازعون بعضهم ضد بعض، على السدّة التي أخلاها المسيحيون الذين يبدو أنهم تركوا وراءهم، إلى الأبد، مرحلة الامتياز المسيحي الذي بدأ قبيل الانتداب ومعه.

يبدو أن المسلمين الآن يتنازعون فيما بينهم. الشيعة هم اليوم في أعلى الهرم، بل هم قوّةٌ لا يمكن صدُّها. وليس في وجهها إلّا السلطة التي لا تجسر على مواجهتها. المسلمون بالطبع لا ينتمون إلى المائة سنة التي مرّت على قيام لبنان، لكنهم لا يحفرون في هذا التاريخ، ولا يهمُّهم أن يُستعاد أو يُستذكر. لا يهمُّهم أن يكون في الوقت نفسه عيد الانتداب وذكراه، فإن من عواقب هذا القرن ومن نتائجه أن الحلم العروبوي توارى.

توافق اللبنانيون جميعهم على لبنان كهوية وكوطن نهائي، بل وتوافقوا على الامتياز اللبناني. لن يعود المسلمون وخاصة الشيعة بينهم إلى الحلم العروبوي. الطوائف تتنازع اليوم على لبنان، ولبنان بالنسبة للجميع هو العنوان والهوية. لا يهم المسلمين والشيعة بالأخص أن تعيّد السلطة اللبنانية، والفرع المسيحي منها، بمرور مائة سنة على قيام لبنان. لكن هذه المناسبة ليست من تاريخهم ولا بأس مع ذلك أن يتبنّوها ويضمّوها إليهم، كما سبق لهم أن تبنّوا لبنان وضمّوه.

تعيّد السلطة اللبنانية، وفرعها المسيحي بشكل خاص، بإعلان لبنان الكبير 1920. إنها، أي السلطة وماضيها المسيحي، بحاجة الى تاريخ، بحاجة بالطبع إلى ذاكرة. السلطة اللبنانية بكل أطرافها وفروعها هي الآن على الحافة، بل هي في الهوّة، ففي مواجهتها سلطة أُخرى كاملة وتحدّيات لم تقدر عليها. الآن والكارثة أمام الجميع، يبدو مهماً أن تسترجع السلطة ماضيها وذكرياتها، أو أن يكون لها ماضٍ وذكريات، فهي الآن على وشك أن تغدو تاريخاً، هي الآن تكافح لكي يكون لها تاريخ.


* شاعر وروائي من لبنان

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون