وأثار تنظيم المؤتمر في القاهرة، حفيظة حقوقيين معارضين للنظام الحالي، الذي تفوّق على سابقيه في ممارسات التعذيب والقمع. وأبدى عدد منهم، تساؤلات حول كيفية اختيار القاهرة لعقد هذا المؤتمر، على الرغم من سمعة مصر الدولية المشينة في مجال حقوق الإنسان، وتحديداً في ملف التعذيب. يذكر أنه في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، سيجري الاستعراض الدوري الشامل الثالث الخاص بمصر أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. ومن الضروري على الحكومة المصرية أن تحرز تقدّماً في وقف انتهاكات حقوق الإنسان، قبل عرض سجلّها أمام مجلس حقوق الإنسان، وبالأخص وقف استخدام التعذيب ومحاسبة كل من تورط في ارتكاب تلك الجريمة.
موقف النظام
أدركت الحكومة جيداً أن عملية الاستعراض الدوري الشامل، هي آلية مهمة نسبياً لإضفاء مصداقية دولية لنظام فاقد لشرعيته الوطنية؛ لذا اعتمدت بشكلٍ كامل 224 توصية من بين 300 توصية تلقتها مصر من مجلس حقوق الإنسان كانت قد وجّهت إليها من 121 دولة في الجلسة الأولى للاستعراض في نوفمبر من عام 2014، وكذلك الموافقة الجزئية على 23 توصية أخرى، ورفضت 53 توصية للمجلس. ويجرى الاستعراض الدوري الشامل كل أربع سنوات، بغرض عرض سجلات حقوق الإنسان أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، لمحاولة تحسين الأوضاع الحقوقية في الدول الأعضاء، من بينها مصر، في ظل أوضاع حقوقية صعبة تشهدها الدولة، خصوصاً بعد أحداث 30 يونيو/حزيران من عام 2013.
لكن بعنوان "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ظل حكم السيسي"، أصدرت منظمة العفو الدولية، تقريراً في مارس/آذار الماضي، قبل أشهر قليلة من الاستعراض الدوري الشامل لمصر أمام الأمم المتحدة، قدّمت فيه تقييماً لمدى تنفيذ مصر التوصيات التي قدمت إليها في مراجعتها الدورية السابقة. أما فيما يتعلق بالتعذيب تحديداً، أكدت المنظمة أن مصر قبلت توصية بحماية المحتجزين من التعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة، ورفضت توصية تدعوها إلى السماح بزيارات مستقلة لجميع أماكن الاحتجاز، بما في ذلك المنشآت العسكرية ومنشآت قطاع الأمن الوطني. وتشير بحوث منظمة العفو الدولية إلى أن قطاع الأمن الوطني استخدم الاختفاء القسري والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة بشكل روتيني لانتزاع اعترافات ومعاقبة المعارضين. ورأت المنظمة أن "الذي قدّمته مصر وتزعم فيه السلطات أنها وضعت التوصيات التي قدمت إليها عام 2014 موضع التنفيذ، لا أساس له بالمرة، نظراً للتدهور الكبير في وضع حقوق الإنسان في مصر منذ الاستعراض السابق".
نظرة على أرشيف التعذيب
أرشيف شبه يومي للتعذيب في السجون ومقار الاحتجاز المختلفة في مصر، نجحت بعض المنظمات الحقوقية الدولية والمصرية في تجسيده في عدة أرقام. وكانت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، قد قالت، في تقرير لها في سبتمبر/أيلول 2017، إن ضباط وعناصر الشرطة و"قطاع الأمن الوطني" في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، يعذبون المعتقلين السياسيين بشكل روتيني بأساليب تشمل الضرب، والصعق بالكهرباء، وضعيات مجهدة، وأحيانا الاغتصاب. وأضافت في تقريرها الذي جاء بعنوان "هنا نفعل أشياء لا تصدق: التعذيب والأمن الوطني في مصر تحت حكم السيسي"، أن النيابة العامة تتجاهل عادة شكاوى المحتجزين بشأن سوء المعاملة وتهددهم في بعض الأحيان بالتعذيب، مما يخلق بيئة من الإفلات شبه التام من العقاب.
وفي أغسطس/آب الحالي، أصدرت المفوضية المصرية للحقوق والحريات (منظمة مجتمع مدني مصرية)، تقريراً بعنوان "كابوس التعذيب في مصر" رصدت فيه استمرار جرائم التعذيب داخل أماكن الاحتجاز بشكل ممنهج، من خلال توثيق حالات على مدار سنتين، والاستعانة ببيانات إحصائية أصدرتها عدد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية حول حالات التعذيب في العامين الأخيرين. وفي عام 2016، وثّقت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، 830 حالة تعذيب تضمّنت 159 واقعة تعذيب في أقسام الشرطة و101 حالة تعذيب في مقر جهاز أمن الدولة الذي تديره وزارة الداخلية، إضافة إلى 35 واقعة في معسكرات قوات الأمن، و6 وقائع في المؤسسات العقابية. تبقى وقائع التعذيب الكبرى شاهدة على الجرائم التي حصلت. أبرز تلك الوقائع ما حصل في 25 أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، بعد تسعة أشهر من اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني التي خرجت في الأساس يوم عيد الشرطة، للتعبير عن رفض ممارساتها للتعذيب، حينها قُتل المواطن عصام عطا، بسبب التعذيب من قِبَل إدارة سجن طرة، بضخ المياه داخل فتحات جسده بواسطة خراطيم.
في يونيو/حزيران الماضي، أسدلت محكمة الستار على دعوى الصلاحية التي أقيمت ضد القاضيين هشام رؤوف وعاصم عبد الجبار، بعد اتهامهما بالعمل السياسي، لمشاركتهما في مراجعة مقترح مشروع قانون لمناهضة التعذيب في مصر، وأُحيلا لمجلس الصلاحية، على خلفية حضورهما ندوة لمناقشة قانون مقترح لمكافحة التعذيب، كانا قد شاركا في صياغته، بدعوة من الحقوقي نجاد البرعي، في أعقاب ثورة 25 يناير. وتعود بدايات هذه القضية إلى مايو/أيار 2015 حين تم انتداب قاض للتحقيق في تعاون رؤوف وعبد الجبار مع "منظمة غير شرعية" واشتراكهما في صياغة مشروع قانون لمكافحة التعذيب، كمساهمة منهما لسد الفراغ التشريعي الذي يعرقل عمل النيابة العامة والقضاء في هذا النوع من القضايا، ومن ثم إفلات مرتكبيها من العقاب.
في 25 يناير 2014، ألقت قوات الأمن القبض على الفتى المصري، محمود محمد أحمد، بسبب ارتدائه "تيشرت" مكتوباً عليه "وطن بلا تعذيب" ووشاحا مكتوبا عليه "25 يناير". اقتادته قوات الأمن حينها وكان في الصف الثاني الثانوي، إلى قسم المرج شرقي القاهرة، وحررت له محضراً برقم 715 لسنة 2014، إداري المرج، وأرسلته إلى النيابة العامة، التي باشرت التحقيقات معه وأمرت بحبسه ووجهت له اتهامات "الانضمام لجماعة أسست على خلاف أحكام القانون، والتحريض والاشتراك في التظاهر، وحيازة مفرقعات".
وظل محمود، الذي عُرف إعلامياً بـ"معتقل التيشرت"، محبوساً احتياطياً منذ 25 يناير 2014 ولمدة 752 يوماً، على الرغم من انقضاء مدة حبسه الاحتياطي المقررة في القانون، كاملة، من دون إحالة إلى المحاكمة أو التصرف في القضية، إلى أن تمت إحالة قضيته للمحاكمة في 31 يناير 2016. وفي 24 مارس/آذار 2016، أخلي سبيله وكان عمره حينها 18 عاماً، بكفالة قدرها ألف جنيه، بعد 47 جلسة تجديد حبس و3 جلسات استئناف، تعذّر خلالها إحضار محمود من محبسه و29 مرة لأسباب أمنية لا يتم ذكرها، كان بينها 8 مرات بشكل متتالٍ تضمنها الحصر من تاريخ 8 يناير 2015 وحتى 18 مارس 2015؛ لتكون بذلك مجمل الجلسات التي حضر فيها محمود 18 جلسة فقط، تجدد فيها كلها حبسه 45 يوماً على ذمة التحقيقات، ما عدا جلستين جُدد له 15 يوماً، حسب توثيق مؤسسة حرية الفكر والتعبير (منظمة مجتمع مدني مصرية).
القضاء يقر بوجود التعذيب
وسط آلاف الدعاوى القضائية التي ينظرها القضاء ضد وزير الداخلية للمطالبة بالتعويض المادي في وقائع تعذيب واعتقال وإصابات مزمنة وعاهات مستديمة أثناء الاحتجاز، وتزامناً مع نفي الرئيس عبد الفتاح السيسي الاتهامات بأن الدولة تمارس التعذيب، نظرت محاكم عدة في دعاوى قضائية بحق بعض مسؤولين أمنيين بتهمة ممارسة التعذيب وارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وأصدرت أحكاماً باتة، كان آخرها في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عندما أيّدت محكمة النقض حكماً على أحد ضباط الشرطة بالسجن المشدد 7 سنوات، والسجن 3 سنوات لخمسة أمناء شرطة آخرين، لتعذيب مواطن حتى الموت داخل أحد أقسام الشرطة. كما قضت بتغريم وزير الداخلية 1.5 مليون جنيه (85 ألف دولار) تم دفعها غرامة لأسرة الضحية كتعويض عن عدم قيام وزارة الداخلية بمنع هذه الانتهاكات.