مأزق المثقف العربي

20 مارس 2015

إدوارد سعيد: على المثقف الابتعاد عن السلطة بأشكالها كافة

+ الخط -
كانت الثورات العربية بمثابة "مصفاة" حقيقية، غربلت مواقف مثقفين عرب كثيرين، وكشفت أزمتهم الأخلاقية. ولا نبالغ إذا قلنا إن أحد عوامل الحصاد الهزيل للموجة الأولى من "الربيع العربي"، هو تحولات المواقف السياسية والأخلاقية، لمثقفين وقادة رأي كثيرين في العالم العربي. ونتحدث، هنا، عن المثقف الحقيقي الذي يعرّفه إدوارد سعيد في كتابه الرصين "المثقف والسلطة" بأنه "الشخص الذي يمثل صوت من لا صوت لهم، ويجسد قيمهم ويستمسك بها دون مساومة أو تفريط"، ولا نتحدث عمّن يدّعون الفكر والثقافة، في حين أنهم أبعد ما يكونون عن ذلك.
كمبدأ عام، المثقف، حسب سعيد، يجب أن يكون بعيداً عن السلطة بأشكالها كافة، حتى لا تقيّد تفكيره، أو تحد من مسار أفكاره، أو توجهها وفق مصالحها ورغباتها. ولا يخلو تاريخ الثورات، خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين من دور مهم لعبه المثقفون، أو "الإنتلجنسيا" سواء في إشعال الثورات، أو تغيير مجتمعاتهم، ونمط تفكيرهم بعد الثورات، وذلك مثلما كانت عليه الحال في الثورة الفرنسية 1789 والروسية 1917 والصينية 1949. وهو أمر لم تخل منها أيضاً ثورات العالم الثالث التي وسمت القرن العشرين، حيث لعبت النخبة المثقفة، أو الإنتلجنسيا، دوراً مهما في ثورات المكسيك 1910 وكوبا 1959 وإيران ونيكاراغوا 1979، وذلك في تجسيد حي وتطبيقي لمفهوم أنطونيو غرامشي عن "المثقف العضوي".
وكذلك، أيضاً، كانت الحال مع ثورات الربيع العربي، حيث تخلى مثقفون عرب كثيرون عن عالم الأفكار، ونزلوا الشارع، مطالبين بالحرية، ومدافعين عن حقوق مجتمعاتهم في العيش بكرامة وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولا زلت أذكر نضال مثقفين مصريين كثيرين وضعوا البذور الأولى لثورة 25 يناير قبلها بسنوات، من خلال المشاركة في تأسيس جمعيات وحركات التغيير مثل حركة كفاية التي تأسست عام 2004. ومن ينسى صورة المفكر الراحل، الدكتور عبد الوهاب المسيري، وهو يتدافع في قلب إحدى المظاهرات في ميدان التحرير عام 2008، إذ جرى بعدها اختطافه، هو وزوجته الدكتورة هدى حجازي، وإلقاؤهما في صحراء القاهرة؟ ومن منا ينسى الدور الملهم والمؤثر للمناضل الراحل، الدكتور محمد السيد سعيد، الذي لعب دوراً مهماً في صياغة مطالب الحركة الديمقراطية والحقوقية المصرية طوال العقدين الأخيرين؟ وهو الدور نفسه الذي لعبه أيضاً الدكتور برهان غليون، قبل أن يصبح رئيساً لأول ائتلاف معارض بعد قيام الثورة السورية قبل ثلاث سنوات. وكان الرئيس التونسي السابق، منصف المرزوقي، من أهم الرموز الفكرية التي وصلت إلى السلطة في تونس بعد ثورة "الياسمين".
بيد أن ما يثير المفاجأة تلك التحولات التي طالت مواقف نفر من المثقفين العرب في مرحلة ما بعد الثورات، والتي وصلت إلى حد التناقض. فقد انقلب حال بعضهم، وتحوّل من ممثل ومدافع عن قيم الحرية والعدالة والتسامح إلى أداة لتبرير توحّش السلطة الجديدة، ومباركة عنفها وقمعها، وتشجيعها على إغلاق المجال العام بدعوى "الحرب على الإرهاب". وهو أمر يبدو واضحاً في الحالة المصرية التي تحوّل كثير من رموزها ومثقفيها، خصوصاً أولئك الذين ناضلوا ضد استبداد دولة حسني مبارك، إلى مجرد "ذراع" للنظام الحاكم الآن، يبررون قمعه، ويدافعون عن سياساته الفاشية، ولا يمانعون في وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان، واعتقال نشطاء سياسيين.
ارتداد بعض المثقفين العرب عن الدفاع عن مبادئ الحرية والعدالة، بعيداً عن مصيدة التحزب السياسي والإيديولوجي، يكشف زيفهم السياسي، ويعرّي موقفهم الأخلاقي. وهو مأزق سوف تتضح آثاره عندما يكتشف هؤلاء أن الانحياز للمبادئ والقيم أجدى وأفضل بكثير من الانحياز للسلطة، أياً كانت المبررات والدوافع.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".