13 فبراير 2022
مأزق "إخوان مصر" بين السياسي والدعوي
بعد الخطوة الجريئة التي قامت بها حركة النهضة التونسية بالفصل بين النشاطين الدعوي والسياسي، زادت الدعوات بأن تتبنى جماعة الإخوان المسلمين في مصر هذا الخيار، وأن تفصل ذراعيها الدعوي /التربوي عن السياسي /الحركي. بل تردّدت أنباءٌ عن دعوة بعض قيادات "الإخوان" في الخارج إلى تبني هذا الخيار. والحقيقة، ليست هذه الدعوات جديدة، وإنما تكاد تكون قديمة ومكرّرة، وقد جاءت من كتاب وباحثين ومثقفين طوال العقد الماضي. وثمة دراسات وأبحاث ومقالات عديدة، كُتبت في هذا الشأن من محسوبين على التيار الإسلامي في العالم العربي. وهنا، يمكن الإشارة إلى الكتاب الشهير الذي حرّره الباحث الكويتي، الدكتور عبد الله النفيسي، قبل عقدين ونصف، وحمل عنواناً لافتاً هو "الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية... أوراق في النقد الذاتي"، وساهمت فيه أسماء معروفة كالمستشار طارق البشري، وحسن الترابي، ومحمد عمارة، وفريد عبد الخالق، وتوفيق الشاوي. وهو كتاب لا أعتقد أن قيادات "الإخوان" قرأته، شأن غيره من الكتابات النقدية الجادة الأخرى، وإلا لما كانوا قد وصلوا إلي ما هم عليه الآن. وهو الكتاب الذي أُعيد نشره، مرة أخرى، وحررّه وقدم له الدكتور حامد عبد الماجد قويسي، وهو من أشد ناقدي سلوك جماعة الإخوان قبل الثورة وبعدها، على الرغم من انتمائه للمظلة الإسلامية. كما أذكر أن الدكتور محمد سليم العوا كان قد كتب مقالاً عام 2007، دعا فيه "الإخوان" إلى الاكتفاء بالعمل التربوي والدعوي والبعد عن النشاط السياسي، وهو ما أثار ردود أفعالٍ واسعةٍ داخل الجماعة، اتسمت في معظمها بالرفض والاستهجان.
وبعيداً عن ذلك، ثمّة معوقات وعراقيل تحول دون قيام جماعة الإخوان بمصر بعملية الفصل (وليس التمييز فحسب) بين النشاطين الدعوي والسياسي، على الأقل في المرحلة الحالية، لعل أهمها ما يلي:
أولاً، ما يمكن أن نسميه "عيب النشأة"، فالخلط بين الدعوي والسياسي يمثل جزءاً رئيسياً من الحامض النووي للإخوان، فكرة وتنظيماً. صحيح أن الجماعة بدأت حياتها مدة عقد (من 1928-1938) كحركة دعوية اجتماعية، لكن ذلك لم يكن سوى تمهيد واستعداد للانخراط في العمل السياسي لاحقاً، وهو ما حدث بالفعل. ولعل إحدى الأفكار السحرية التي جاء بها مؤسس الجماعة حسن البنا، والتي ألهمت، ولا تزال، كثيرين، هي مسألة الشمولية (شمولية الفكرة والتنظيم)، وهي التي ساهمت في انتشار الجماعة بشكل كبير. وهي مسألة تعبّر عن نفسها بشكل جليّ في التعريف الشامل الذي وضعه البنا للجماعة (دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية وشركة اقتصادية وهيئة اجتماعية). وبالتالي، أي حديث عن الفصل بين هذه العناصر، سوف يتطلب بالضرورة إعادة تعريف الجماعة لنفسها ولرسالتها ولدورها وحدوده. وهي مسألةٌ تنطوي علي مخاطر عديدة، إيديولوجية وتنظيمية وتعبوية، قد تودي بالجماعة نفسها، ذلك أن أسباب الانضمام للجماعة تتراوح بين هذه العناصر السبعة التي وضعها البنا، وإنْ بأوزان مختلفة.
ثالثاً، ما يمكن أن نسميه "عبء الجماعة الأم"، فعلى الرغم من الالتقاء في الجذر الفكري
والأيديولوجي بين جماعة الإخوان في مصر وغيرها من الفروع في المنطقة العربية وخارجها، فإن الجماعة "الأم" لا تزال تمثل النموذج "النقي" للفكرة الإسلامية، حسبما تخيلها البنا، وآمن بها تلامذته وتابعوه خصوصاً في مصر. وبالتالي، أي تغيير في أسس هذه الفكرة سوف يحولها إلى شيء آخر لا يصلح أن يسمّى بعدها "الإخوان المسلمين". ولربما كان ذلك أحد الأسباب التي جعلت الجماعة بعد ثورة يناير تلجأ لخيار "الأذرع" (أي إنشاء ذراع سياسي ممثل في حزب الحرية والعدالة)، بدلاً من الفصل التام بين السياسي والدعوي. ذلك أن فكرة الفصل التام نفسها تبدو غير متخيَّلة، حتى الآن، لدى كثيرين داخل الجماعة. وأذكر في أثناء المقابلات التي أنجزتها في أثناء إعداد كتابي الأول عن الجماعة (الإخوان المسلمون في مصر: شيخوخة تصارع الزمن، 2007) أن كثيرين ممن قابلتهم رفضوا فكرة الفصل التام بين الدعوي والسياسي، ولعلها كانت من القضايا التي لا يوجد عليها خلافٌ بين الشيوخ والشباب داخل الجماعة. بكلمات أخرى، فإنه من الصعوبة على قيادات "الإخوان" وشبابهم أن يتخيلوا أنفسهم "أهل دعوة" فقط، أو أن يقتصر نشاطهم علي التربية والعمل الخيري فحسب، من دون أن تكون هناك امتدادات تنظيمية وسياسية لذلك.
ثالثاً، ما يمكن أن نطلق عليه "عبء التنشئة"، وهو عبء يرتبط بطبيعة التربية الإخوانية، والتي لا تقتصر فقط على توطين قيم دينيةٍ بحتةٍ كالبيعة والطاعة، وإنما أيضاً تنطوي علي قيم سياسية وتنظيمية كثيرة كالولاء والانتماء والشورى والمشاركة... إلخ. وهي تنشئة ليست سلبية passive بالمعني السياسي وإنما فاعلة وناشطة، وتظهر بوضوح في مناسبات مختلفة. وقيم التنشئة الإخوانية تفترض في الفرد الإخواني الحضور الدائم في المجال العام بمستوياته المختلفة سواء السياسية أو الاجتماعية أو حتى على مستوى الروابط العائلية والشبكات الاجتماعية. بكلمات أخرى، فإن الفرد الإخواني (خصوصاً في مستويي العضوية المنتظم والعامل) هو فاعل نشط باستمرار، ويقوم بأداء مهام معينة، كجزء من التزاماتها التنظيمية، تتجاوز البعدين الدعوي والتربوي. وبالتالي، الفصل بين السياسي والدعوي، سواء باتجاه الاكتفاء بالأول أو بتكريس الثاني، بحاجة إلى منظومة تنشئة جديدة تختلف عمّا هو سائد حالياً داخل المحاضن الإخوانية، وهو أمر يتطلب سنوات من أجل إنجازه.
رابعاً، عبء التنظيم، ونقصد هنا التضخم الهائل في حجم تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، والذي على الرغم من الضربة التي يتعرّض لها الآن، إلا أن ما خلفه من ثقافةٍ تنظيميةٍ ورثتها الأجيال الحالية في الجماعة، يمكن أن يشكّل معضلة في مسألة الفصل بين السياسي والدعوي، خصوصاً إذا كان التوجه ناحية بناء حزب سياسي فقط هو الخيار. وبشكل أكثر تحديداً، فإن طبيعة التنظيم الإخواني، كبنية هيراركية مغلقة، ونمط عضوية مقصورة على فئاتٍ بعينها، ساهم في "تطييف" العقل الإخواني بشكلٍ يصعب معه التحوّل إلى حزبٍ سياسي مفتوح، يضم أناساً من خلفيات مختلفة. كما أنه، من الناحية الفنية، فإنه إذا تم الذهاب باتجاه الحزب، فإنه من الصعب أن يتم نقل الأفراد من التنظيم الإخواني إلى الإطار الحزبي الجديد، من دون القيام بعملية تغيير هيكلية في ثقافتهم وقيمهم التنظيمية. وهي مشكلة بدت بوضوح في حالة حزب الحرية والعدالة الذي لم يستطيع أعضاءه الفكاك من أسر الثقافة التنظيمية الإخوانية.
خامساً، عبء الواقع. يخطئ من يظن أن قرار حركة النهضة الفصل بين المجالين، الدعوي والسياسي، هو وليد اليوم، وإنما نتاج عملية جادة وطويلة من المراجعات الفكرية والنقاش الداخلي. كما أن هذه العملية لم تكن لتؤتي ثمارها، لولا وجود واقع سياسي مفتوح شجّع قيادات الحركة على اتخاذ هذا القرار الجريء. وهو ما لا يتوافر قطعاً في حالة "الإخوان المسلمين" حالياً لأسباب أيديولوجية، وكذلك واقعية. أإيديولوجياً، لا توجد في الجيل الحالي من قيادات الجماعة شخصيات كاريزمية ذات فكر منفتح ومتقدم، يمكنها القيام بهذه المراجعات الأيديولوجية العميقة. أما واقعياً، فتواجه الجماعة معركة استئصال وحشية، كما أنها منقسمة علي ذاتها داخلياً وخارجياً، وهو ما يصعّب إمكانية اتخاذ قرار مصيري بالفصل بين الدعوي والسياسي، بافتراض أنه تم النظر في النقاط الأربع السابقة.
وبعيداً عن ذلك، ثمّة معوقات وعراقيل تحول دون قيام جماعة الإخوان بمصر بعملية الفصل (وليس التمييز فحسب) بين النشاطين الدعوي والسياسي، على الأقل في المرحلة الحالية، لعل أهمها ما يلي:
أولاً، ما يمكن أن نسميه "عيب النشأة"، فالخلط بين الدعوي والسياسي يمثل جزءاً رئيسياً من الحامض النووي للإخوان، فكرة وتنظيماً. صحيح أن الجماعة بدأت حياتها مدة عقد (من 1928-1938) كحركة دعوية اجتماعية، لكن ذلك لم يكن سوى تمهيد واستعداد للانخراط في العمل السياسي لاحقاً، وهو ما حدث بالفعل. ولعل إحدى الأفكار السحرية التي جاء بها مؤسس الجماعة حسن البنا، والتي ألهمت، ولا تزال، كثيرين، هي مسألة الشمولية (شمولية الفكرة والتنظيم)، وهي التي ساهمت في انتشار الجماعة بشكل كبير. وهي مسألة تعبّر عن نفسها بشكل جليّ في التعريف الشامل الذي وضعه البنا للجماعة (دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية وشركة اقتصادية وهيئة اجتماعية). وبالتالي، أي حديث عن الفصل بين هذه العناصر، سوف يتطلب بالضرورة إعادة تعريف الجماعة لنفسها ولرسالتها ولدورها وحدوده. وهي مسألةٌ تنطوي علي مخاطر عديدة، إيديولوجية وتنظيمية وتعبوية، قد تودي بالجماعة نفسها، ذلك أن أسباب الانضمام للجماعة تتراوح بين هذه العناصر السبعة التي وضعها البنا، وإنْ بأوزان مختلفة.
ثالثاً، ما يمكن أن نسميه "عبء الجماعة الأم"، فعلى الرغم من الالتقاء في الجذر الفكري
ثالثاً، ما يمكن أن نطلق عليه "عبء التنشئة"، وهو عبء يرتبط بطبيعة التربية الإخوانية، والتي لا تقتصر فقط على توطين قيم دينيةٍ بحتةٍ كالبيعة والطاعة، وإنما أيضاً تنطوي علي قيم سياسية وتنظيمية كثيرة كالولاء والانتماء والشورى والمشاركة... إلخ. وهي تنشئة ليست سلبية passive بالمعني السياسي وإنما فاعلة وناشطة، وتظهر بوضوح في مناسبات مختلفة. وقيم التنشئة الإخوانية تفترض في الفرد الإخواني الحضور الدائم في المجال العام بمستوياته المختلفة سواء السياسية أو الاجتماعية أو حتى على مستوى الروابط العائلية والشبكات الاجتماعية. بكلمات أخرى، فإن الفرد الإخواني (خصوصاً في مستويي العضوية المنتظم والعامل) هو فاعل نشط باستمرار، ويقوم بأداء مهام معينة، كجزء من التزاماتها التنظيمية، تتجاوز البعدين الدعوي والتربوي. وبالتالي، الفصل بين السياسي والدعوي، سواء باتجاه الاكتفاء بالأول أو بتكريس الثاني، بحاجة إلى منظومة تنشئة جديدة تختلف عمّا هو سائد حالياً داخل المحاضن الإخوانية، وهو أمر يتطلب سنوات من أجل إنجازه.
رابعاً، عبء التنظيم، ونقصد هنا التضخم الهائل في حجم تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، والذي على الرغم من الضربة التي يتعرّض لها الآن، إلا أن ما خلفه من ثقافةٍ تنظيميةٍ ورثتها الأجيال الحالية في الجماعة، يمكن أن يشكّل معضلة في مسألة الفصل بين السياسي والدعوي، خصوصاً إذا كان التوجه ناحية بناء حزب سياسي فقط هو الخيار. وبشكل أكثر تحديداً، فإن طبيعة التنظيم الإخواني، كبنية هيراركية مغلقة، ونمط عضوية مقصورة على فئاتٍ بعينها، ساهم في "تطييف" العقل الإخواني بشكلٍ يصعب معه التحوّل إلى حزبٍ سياسي مفتوح، يضم أناساً من خلفيات مختلفة. كما أنه، من الناحية الفنية، فإنه إذا تم الذهاب باتجاه الحزب، فإنه من الصعب أن يتم نقل الأفراد من التنظيم الإخواني إلى الإطار الحزبي الجديد، من دون القيام بعملية تغيير هيكلية في ثقافتهم وقيمهم التنظيمية. وهي مشكلة بدت بوضوح في حالة حزب الحرية والعدالة الذي لم يستطيع أعضاءه الفكاك من أسر الثقافة التنظيمية الإخوانية.
خامساً، عبء الواقع. يخطئ من يظن أن قرار حركة النهضة الفصل بين المجالين، الدعوي والسياسي، هو وليد اليوم، وإنما نتاج عملية جادة وطويلة من المراجعات الفكرية والنقاش الداخلي. كما أن هذه العملية لم تكن لتؤتي ثمارها، لولا وجود واقع سياسي مفتوح شجّع قيادات الحركة على اتخاذ هذا القرار الجريء. وهو ما لا يتوافر قطعاً في حالة "الإخوان المسلمين" حالياً لأسباب أيديولوجية، وكذلك واقعية. أإيديولوجياً، لا توجد في الجيل الحالي من قيادات الجماعة شخصيات كاريزمية ذات فكر منفتح ومتقدم، يمكنها القيام بهذه المراجعات الأيديولوجية العميقة. أما واقعياً، فتواجه الجماعة معركة استئصال وحشية، كما أنها منقسمة علي ذاتها داخلياً وخارجياً، وهو ما يصعّب إمكانية اتخاذ قرار مصيري بالفصل بين الدعوي والسياسي، بافتراض أنه تم النظر في النقاط الأربع السابقة.