لمّا جئتُ إلى برشلونة، أخذتني مُضيّفتي الثقافية إلى منطقة "لا رَمبلاس". وفي نهاية الشارع الأشهر، تكلَّمتْ قليلاً عن النصب الماثل أمامنا، لكريستوبال كولون (أو كولمب، كولمبوس، إلخ). كنت قرأت سابقاً أنّ ما أراه الآن هو النصب الأضخم والأفخم للرجل في جميع أنحاء إسبانيا وعشرات مدن المعمورة.
ويومها، لم تقاسمني مضيّفتي غضبي ممّا أرى.
ـ أتُقيمون نصباً لمجرم نصف الألفية الأخيرة الأول؟ عار على المدينة العريقة (التي كانت ولا تزال معقلاً لليسار الأوروبي كلّه) أن تفعل ذلك.
يجب أن يُحطَّم هذا النصبُ اليومَ قبل الغد. ويجب استبداله بآخر، أكبر منه، لتخليد الضحايا الذين لم تُكتشف بلادهم، بل سُرقت حضاراتها ونُهبت ونُكّل ببشرها، منذ ذلك الوقت ولمّا تزل.
قلت لها ذلك.. وشاء حظّي في ما بعد أن أسكن سنواتٍ طويلةً، على مقربة من النصب. والحال، كلّما مررت به، شعرت بالغصّة ذاتها ترتفع في حلقي من جديد. وإلى الآن، رغم مروري شبه اليومي على المكان، ما زلت غير متعوّد على تلك الرقعة القبيحة المسيئة إلى بهاء المدينة وتاريخها النضالي.
فالرقعة، مهما بُذلت أيدي الفنانين، ليست سوى تخليد للشرّ والجزارة البشرية، بالحجر والمعدن ولمسة الفن المتواطئ.
كولمب هو الكولونيالي الأول في الخمسمئة سنة الأخيرة. ولن يجانبك الصوابُ لو شططت وقلت: والإمبريالي الأوّل كذلك. لقد ارتكب بتعصّبه الديني وطموحه الهوسَي، ومِن خلفه الملكان الإسبانيان الرهيبان، أكبر مقتلة في تلك الحقبة عرفها عمومُ البشر التعساء عبر تاريخهم المؤسي.
فقط في الولايات المتّحدة، جرت إبادة 120 مليون "هندي أحمر" بعد كولمب، فما بالك بما حصل في أميركا الوسطى والجنوبية، أثناء وجوده وبعده؟ جريمة لم يكن لها مثيل في وقتها.
أقول هذا الكلام اليوم، بمناسبة ذكرى الثاني عشر من تشرين الأول/ أكتوبر. اليوم الذي تحتفل به عموم المملكة الإسبانية (كل عام، منذ نحو ستين عاماً) كعيد وطني وقومي مدفوع الأجر لجميع موظفيها.
إنه يوم العار الإسباني. وإنه لشيء محيّر بالفعل، وجالب للغمّ، أن يظل الشعب الإسباني الذي نعرفه جميلاً وطيباً، ويتمتّع بحسّ عالٍ للعدالة، ساكتاً عن هذا الظلم التاريخي إلى هذه اللحظة.
لقد هدموا نصب الجزّار إيطالي الأصل في عشرات المدن اللاتينية، بل حتى في مدن داخل الولايات المتّحدة ذاتها (النظام الوارث لتلك الجريمة الكبرى)، فلماذا تتأخر إسبانيا والإسبان؟
وإلى متى يستمر هذا العار ويظلّ اسمه الرسمي هو "العيد الوطني لاكتشاف أميركا"؟
ما يعزّيني قليلاً ـ وإنْ بلا طائل ـ أنني لم أصادف يوماً، لا بين البسطاء ولا بين غيرهم، من يحب هذا العيد، بل إن غالبية الشعب هنا، باستثناء المحافظين والفرانكويين، ضده.
والسؤال: متى تنعكس إرادة الأغلبية على القرار الحكومي فيُلغَى "المأتم" ويُكرّس لنقيضه: أي للاحتفاء بالضحايا؟
سؤال ينتظر الإجابة.
مئة وعشرون مليون لاتيني قُتلوا بداية من هذا اليوم الأسود.