يلاحظ متابع مسيرة الفنانة العراقية، ليلى محمّد (1959)، انشغالها في السنوات الأخيرة بقضية الأداء، حيث تتناوله من زاوية نظرية بعد طول ممارسة فوق الخشبة أو أمام الكاميرا.
بدأ هذا التوجّه أكاديمياً، حين تخصّصت في فن التمثيل الذي تندمج فيه كل الأدوات المتوفرة لدى المؤدّي كي يلعب دوره على الخشبة، من نطق وتعبير جسماني وإيماءات وحركة أو تفاعل حيّ مع طوارئ العرض. طالما أمسكت محمد بكل هذه العناصر خلال أدائها، وها هي تطلب الإمساك به عبر الدرس والبحث.
ابنة مدينة كربلاء ترى في حديثها مع "العربي الجديد" أنها بذلك "تعود إلى أصول فن المسرح الإغريقية، حين كان الممثل هو محور العملية الفنية؛ إذ يجسّد في مشهد واحد الإله والملك والراعي والمواطن والعبد". وهي تعتبر أن "تطوّر المسرح كان على حساب الجانب الأدائي، حيث باتت المؤثرات تسعف الممثل أكثر فأكثر"، وتجد في المونودراما مجالاً يُرجع للممثل محوريّته.
جاءت محمد إلى المسرح من فن قريب، هو الرقص، واستفادت من فوزها بجائزة "ملكة جمال الربيع" في إيطاليا، مطلع الثمانينيات، لتكون أولى خطواتها في التمثيل تحت الأضواء. ومن ثم دخلت الساحة الفنية العراقية كنجمة، وراكمت أدوار البطولة والجوائز، لعلّ أهمها جائزة أفضل ممثلة مسرحية عن "دزدمونة العراق" في أيام قرطاج المسرحية 1988.
لم تكتف الممثلة العراقية بالبعد الأدائي، بل إنها أخذت موقع الكاتبة تزامناً مع اشتغالها النظري على الأداء المسرحي. تفسّر محمد هذه النقلة بقولها: "بدت لي الكتابة حاجة وهاجساً. فمنذ أن أكملت دراساتي المسرحية ونلت الدكتوراه، وجدت أنني مستعدة لدخول مرحلة متقدّمة من الإبداع المسرحي". نجد في خلفية جميع المسرحيات التي كتبتها عمليات بحث في التمثيل، تقول "أبحث عن الابتكار، والتأليف يساعدني على خوض الأداء بشكل ابتكاري أكبر".
كتبت محمد إلى الآن أربع مسرحيات، هي "نوريّة" (2000)، "منطقة البوح والجنون" (2011) إضافة إلى إعادة كتابة نصّ للمسرحية العراقية الأميركية، هيذر رافو، "تسعة أقسام للرغبة". وفي مسرحيّتها الأخيرة "حرير" (2013)، تؤدّي شخصية امرأة في سبع محطات أدائية، في لعبة فنية تمرّ بها على أجيال من النساء العراقيات.
تخطو محمد اليوم خطوة جديدة بممارسة الكتابة، حين تحاول أن تنفصل عن نصوصها، إذ تؤكد أنها ستكتفي في مشروعها القادم بموقعي الكتابة والإخراج. وهو تحدّ تضعه أمامها، فليس من الصعب أن نلاحظ أنها إلى الآن لم تكتب سوى لنفسها، وهي تعترف أن "الشحنات والانتقالات بين شخصية وأخرى والروح التجريبية التي تتضمنها نصوصي من الصعب تمريرها لمؤدّين آخرين". ومن هنا ترى أن "إدماج الكاتب بالمؤدّي هو وحده الذي يتيح تجاوز هذا العائق".
هذه الصعوبة في تمرير رؤية الكاتب إلى المؤدّي، جعلت الفنانة العراقية تفكّر في بعث "مختبر لفنون الأداء" يساعدها في جعل هذا التحدي ممكناً حين تحوّله بالممارسة والحوار إلى طريقة ممنهجة وقابلة للتعليم، ولتمريره بأسلوب واضح بين أي كاتب وممثل. كما تطمح محمد أن تدمج في هذا المشروع أصحاب مهن من خارج الميدان المسرحي مثل الأطباء وعلماء النفس والاجتماع لدرس حالة الأداء وتثبيتها بحثياً.
تنتمي محمد لـ "الفرقة الوطنية للتمثيل" التابعة لوزارة الثقافة العراقية. أن يكون مسرحٌ تحت إشراف الدولة قد يمثل إشكالاً من زاوية تداخل رؤية الفنان برؤية المؤسسة الراعية. في هذا السياق، تقول: "لدى الفنان أساليبه وطرقه التي يحتال بها على الرقيب أو على إرادة توظيفه".
تفضّل محمد عموماً أن يتفادى الفن المواجهات المباشرة، فالفن "يحبّ التخفي وعن طريق روح التورية يضمن استمراره، كما أنه يحب لعبة الترميز أكثر من التصريح والجهر بالقول".
تتذكر محمد أن "الفرقة الوطنية للتمثيل قدّمت عروضاً زمن حكم صدام حسين لكتّاب كانوا ممنوعين في العراق مثل فؤاد التكرلي، واستطاع فنانون عن طريق المسرح إدخال أفكار رغم الرقابة المشددة". وهي تشير إلى أن "الرقابة ذريعة واهية بالنسبة لفنان حقيقي، فالرقابة مثلاً تطبّق على النصوص ولا يمكن أن تطبّق على الأداء، وفي هذا الأخير مساحة كافية لكي يمرّر الفنان ما يريد".
لعلّ محمد مثل كثير من الفنانين العراقيين قد ظلمتهم تقلّبات تاريخ العراق المعاصر. فقد حُوصر الفنان العراقي ضمن حصار العراق، ولم يظهر في إنتاجات واسعة الانتشار عربياً، وبالتالي لم تكن نجوميته على المستوى العربي بحجم منجزه الفني. ثم انعكس عدم الاستقرار الأمني والسياسي على تقلص فضاءات العرض.
رغم ذلك، تصر محمد على أن تظل مستقرة في بغداد، فالأهم بالنسبة لها هو "تواصل تطوّر الفنان مهما كانت الظروف والسياقات"، وهي ترى أنها نالت الاعتراف عبر عدة جوائز عربية وأدوار بطولة ومشاركاتها العديدة في المسرح والسينما والتلفزيون.