ليلة الماريونيت

06 يناير 2015
إيمان صلاح / مصر
+ الخط -

(إلى هشام أصلان)

.. لم يكن من المفترض أن نلمح ــ من المقاعد الأخيرة في المسرح ــ تقلّبات الكف السوداء وانثناءاتها الصارمة المدربة في ليل الخلفية السوداء بينما تتحرك الدمى كأنها تبدأ حياتها الخاصة، غير أننا ــ ومثلنا مثل الجميع خاصة أصحاب المقاعد الأمامية الذين راحوا يعيشون الكذبة عن قرب تمكنـَّا من رؤية حدود الأصابع الرفيعة، المتطاولة، التي لم يساورنا الشك في أنها لكف أنثى، وهي تنساب في الهواء المعتم فوق رؤوس الدمى، وكان هذا كفيلاً بإخراجنا جميعاً من الوهم الذي ظنناه سيكون محكماً بلا أخطاء من هذا النوع.

ما حدث أن سواد الخلفية كان أكثر حلكة بدرجة واحدة يصعب ملاحظتها من سواد "الجوانتي"، مما جعلنا نـتحرك بقلق في أماكننا وقد شغلـتنا الرغبة في اكتشاف الأنثى وتخيلها في تلك اللحظة عن متابعة الطقس المرح.. وقلنا إن هذه الكف تحركنا، نحن، في تلك اللحظة بغلظة، وتعالٍ. الكف المحايدة الملساء تضع المكان المغلق بأكمله تحت رحمتها، وتصبح البطل غير المعلن، الغامض للعرض الذي فقد فجأة كل إثارته، وقد اكتشفنا خواء تلك المخلوقات وعجزها حين رأينا ــ بشكلٍ مشوش ولكنه حاسم ــ الطريقة الآلية التي كانت تمنحها الحياةَ ببساطة، لا سيما وأن سواد الخيوط كان بدوره ينتمي لدرجة ثالثة من الأسود أفتح من الدرجتين السابقـتين، مما جعلنا نتأكد أن ثمة مؤامرة غريبة تـُحاك على خشبة المسرح.

كان علينا ألا نفقد تماسكنا، وأن نجاهد بكل الطرق كي نستعيد من جديد عالمَ الدمى المفقود، خاصة وقد بدا من صوت الموسيقى المتوترة أنه في لحظات تصاعده. ولكننا فشلنا، وقد صرنا نهباً للأفكار التي لم نعرها اهتماماً من قبل.. فقد جئنا بالأساس لمشاهدة عرضٍ آخر، وأخبرونا أن تلك الفقرة الإضافية توضع قبل العرض لحين اكتمال الرواد، وندمنا أننا لم نأت بأطفالنا معنا ولكننا تذكرنا أن العرض المفترض الذي جئنا من أجله كان محظوراً على الأطفال.. وها هي الصالة تكتظ عن آخرها منذ أكثر من ساعة دون أن تنتهي تلك الفقرة أو يصيب الكلل كفي الأنثى السوداوين.

بدت الكفان كأنما تديران عالماً كاملاً بلا إضاءة. تدوِّخانه باتجاه السقوط. كُنا في هذا الحلم العاصف قد فقدنا الأمل في عودة الإضاءة أو توقف ذلك الكابوس السادي، ولكننا اكتشفنا أننا صرنا مأخوذين بما يحدث حتى أننا بدأنا نتمنى في أعماقنا ألا ينغلق الستار، واكتشفنا السكينة التي سكنت عيوننا في هذا الظلام الموحي، وأصبح التفـتيش عن الأجساد والظلال وتخيل الرسوم مثيراً في العتمة، وبدأنا نكتشف تدريجياً درجاتٍ جديدة من اللون الأسود في نتوءات الجدران ونقوش السقف المقبب والشمعدانات الخالية في الأركان، كل تلك الأشياء التي بدا المكان معها - لدى رؤيتنا له لأول مرة عند دخولنا المشوش- مكاناً للعبادة.. قبل أن نصل للاكتشاف المثير الذي ما كُنا لنبلغه ما لم نجرب التحديق في الظلام: كان جسدُ الأنثى عارياً تماماً ولكنه مدهون بدرجة رابعة من الأسود.. ورأينا تفاصيله الدقيقة، وقد راح خيالنا يكمل ما عجزت عنه أبصارنا، وتوتره الذي لا يخلقه إلا جسدٍ عارٍ حتى لو تيقن صاحبه أن لا أحد يراه.

كفــان خالدتان، تنــتهـيــان بذؤابات شمعيــة، قاسيــة.
واثقـتـان وحُرتان تحت خدعة أن لا أحد يعيرهما الـتفاتاً.
متعجرفتان ولكن فيهما ضعف أعمق نقطة في قلب الأنثى التي تحركهما.

في الفجر. فقط في الفجر ومع ارتفاع الهمهمات وعودة الدنيا لجلبةٍ جديدة، وبينما بدأنا نستقبل الضوءَ بعدوانية وإحباط، كأننا نملك حلماً واحداً بدأ يُسرق مِنـَّا.. اختفى كلُ شئ. أخذنا نفكر ونحن نحدق في أكفـنا الآن: بأصابعنا سندفع الهواء باتجاه البيوت.. بأصابعنا نزيح يوماً آخر عن كاهل الدنيا.. بأصابعنا نتلمس الأماكن المضيئة التي نعرفها ونطمئن إليها. بين الشهيق والزفير وأشباح الغرف.

بأصابعنا هذه، الآن، في هذا الصباح الجديد: نحرك الهواء لأعلى ونزيح سماءً جديدةً عن طريقنا.


* روائي من مصر

المساهمون