اختار "معرض القاهرة الدولي للكتاب" هذا العام (يستمر حتى 12 من الشهر الجاري) الإمام محمد عبده كشخصية له، وموضوع "تجديد الخطاب الديني" كثيمة رئيسية للنقاش حولها. في المقابل، اعترض البعض على وجود كتب للقرضاوي في جناح "دار الشروق"، رغم أنها موجودة طوال العام في مكتبات هذه الدار، ورغم وجود كتب أخرى للسلفية في العديد من دور النشر، ما دفع مسؤولي "الشروق" لرفعها لعدم إثارة الجدل.
هل يمكن ربط الحدثين ببعضهما لنتوصل إلى نتيجة مفادها أن تجديد الخطاب الديني يستلزم منع الكتب المخالفة للتجديد في صيغته الجديدة، أو الرسمية؟ ورغم أن مسؤولي المعرض لم يتدخلوا لرفع الكتب، أو منعها قبل المعرض، و"الشروق" فعلت ذلك، على الأقل ظاهرياً، بمحض إرادتها؛ يبقى السؤال: هل اختارت الدولة تجديد الخطاب الديني بخطاب معين؟ هل يحقّ أصلاً لوزارة الثقافة، أو يدخل في صميم عملها، تجديد الخطاب الديني أو عرضه للمناقشة؟ وإذا كان هذا هو دور وزارة الثقافة، فهل تقوم وزارة الأوقاف بالاهتمام بالفنون الكتابية والبصرية ومعالجة مشكلات الإبداع وغياب النقد لتجديد الخطاب الثقافي؟
هل يقوم الأزهر بمناقشة استراتيجية وزارة الثقافة وغيابها عن الأقاليم وفكّ الالتباس في العمل ما بين "هيئة الكتاب" وهيئة قصور الثقافة وأزمات المؤسسات الثقافية المستقلة؟ هل يناقش، الأزهر والأوقاف، مقترحات مثل التعاون بين "الثقافة" و"التعليم" للتثقيف في المدارس والجامعات ونقل التعليم المصري من "الحفظ" إلى "الفهم والتحليل"؟
اختيار محمد عبده نفسه، رغم أهميته وتجديده ورؤاه الهامة في المسائل الدينية، تطرح سؤالاً عن أهمية العودة إلى قرن مضى لـ "التجديد"، وكأن التجديد معناه العودة إلى الماضي وليس النظر إلى المستقبل، إلى الحاضر.
لماذا يجب أن نلغي كل الخطوات الهامة والحقيقية والجادة التي قطعها نصر حامد أبو زيد لنعود إلى تجديد محمد عبده تحديداً؟ ما من إجابة غير أن أبو زيد مطرود من جنة الدولة حياً وميتاً، إذ لا يُنتظر، ولا حتى في الأحلام، أن تقوم هيئة حكومية بإعادة طبع كتبه أو تكريمه أو مناقشة أفكاره أو جعله "شخصية معرض القاهرة للكتاب". ذلك لأن أبو زيد وضع إصبعه في جرح الدولة الغائر، وصب الملح على هذا الجرح.
لن تستطيع الدولة، وزارة الثقافة، معرض الكتاب، تجديد أي خطاب ديني؛ فكتب المسيح الدجال وعذاب القبر والسحر والشعوذة وكيف يمكن أن تقتل العفريت داخل جسدك وخمس طرق لمعرفة الملموس؛ كلها موجودة على الأرصفة وعند باعة الجرائد من الإسكندرية لأسوان، ومتوافرة بأسعار زهيدة.
ولا تتمثل الطريقة الأمثل لمواجة هذا النوع من الكتب والثقافة بمنعها أو مطاردة بائعيها، ولا بعقد ندوات "تجديد الخطاب الديني" داخل قاعات "الأعلى للثقافة" وخيم معرض الكتاب، بل بنشر الثقافة والسينما والمسرح، بإعادة مهرجان "الفن ميدان" إلى الشارع والعمل على دعمه وعمل مهرجانات أخرى لها نفس الطابع، بإعادة نشر كتب نصر أبو زيد وفرج فودة، بالاهتمام بالشعر والروايات والقصص. بمعنى آخر: بالعمل كوزارة للتثقيف، هدفها المواطن وليس إرضاء السلطة ولا اتباع تعليماتها.
ولعل معرض الكتاب، منذ أيامه الأولى، بازدحامه والصفوف المتراصة على أبوابه، دليل واضح على تلهف الناس لثقافة تنقذهم من ضلالات تراكمت خلال أكثر من ثلاثين عاماً، تم فيها تجريف الثقافة وتبويرها من أجل عيون حاكم مستبد رأى أن أفضل وسيلة لحكم الشعب نشر الجهل والفقر.
سيتجدد الخطاب الديني تلقائياً بتجديد الخطاب الثقافي. سينبذ العقل المثقف الذي تربى على النقد والتحليل والفهم وأخذ نصيبه من المعرفة التاريخية والاجتماعية والسياسية كل وسائل القتل والتعدي على المختلف دينياً، كما سينبذ سلطة الفرد الواحد؛ ذلك لأن الثقافة، بمعناها الواسع، تعني المعرفة من أجل الإيمان بالتعددية.