في شوارع العاصمة الليبية طرابلس أو مدن أخرى، لا يمكن المرور من دون ملاحظة كلّ هؤلاء الناس المتجمّعين أو المصطفّين في طوابير أمام المصارف. ثمّة أزمة في السيولة النقدية في البلاد.
تتراكم الأزمات في ليبيا من جرّاء الاقتتال والانقسام السياسي والأمني في البلاد، فتخلّف مضاعفات كثيرة في حياة أهل البلاد. وأخيراً، في مقابل غلاء الأسعار الفاحش الذي يطاول احتياجات المواطن الأساسية، أعلنت مصارف كثيرة في البلاد عن خلوّ خزائنها من السيولة النقدية نتيجة أسباب متعددة، في حين يبقى المواطن المتضرر الأكبر بلا شك.
بعض الليبيين رأى في الانفلات الأمني وعدم توفّر حراسة مناسبة للمصارف سبباً لعدم استقبالها السيولة، لا سيّما في مناطق نائية في الجنوب على سبيل المثال. آخرون أعادوا السبب إلى تخفيض البنك المركزي حجم السيولة النقدية الذي يمنحه شهرياً للمصارف من ضمن سياساته المعلنة لاحتواء أزمة الدينار الليبي. إلى ذلك، تتراكم رواتب المواطنين الشهرية في المصارف من دون أن يتمكّن هؤلاء من سحبها.
منذ أكثر من عامَين، صارت ظاهرة الطوابير الطويلة التي ينتظم فيها المواطنون ابتداءً من ساعات الليل المتأخرة أمام المصارف، أمراً عادياً، على الرغم من أنّ تلك المصارف لا تمنح الموظّف الليبي شهرياً إلا ثلث مرتّبه فقط. ومع استمرار الأزمة، اتخذ البنك المركزي قراراً بجدولة أعمال مصارف العاصمة، ليوفّر كل مصرف منها السيولة ليوم واحد في الأسبوع يُعلن عنه مسبقاً. يُذكر أنّ الحال في المناطق النائية سيّئ جداً، إذ إنّ ثمّة مصارف مقفلة منذ أكثر من عام وقد توقّفت خدماتها كلياً. إلى ذلك، كان البنك المركزي قد طرح مطلع العام الماضي حلولاً بديلة، أبرزها الدفع الإلكتروني. وتلك الخدمة التي أتت بتسميات اختلفت من مصرف إلى آخر، أتاحت للمتعاملين دفع ثمن مشترياتهم وتسديد فواتير الصيدليات والمستشفيات والمطاعم وغيرها من دون حاجة إلى سيولة. لكن، ومع مرور الوقت، عزف الناس عن التعاطي مع تلك الخدمة على خلفيّة الفوائد العالية التي وصلت إلى 30 في المائة، الأمر الذي يرفع الأسعار المرتفعة أساساً ويتحمّل المواطن بالتالي عبئاً إضافياً كبيراً.
مع دخول أزمة السيولة سنتها الثالثة، كان لزاماً على المواطن البحث عن بدائل لتوفير النقد لسدّ احتياجاته. عبد الواحد العبار، وهو مواطن في الأربعينيات، حوّل سيارته الخاصة إلى سيارة أجرة، بحسب ما يخبر "العربي الجديد" وهو متوقف عند شارة ضوئية في تاجوراء (شمال غرب) وينادي على المارة " تاجوراء طول - بير الأسطى وميلاد - تقاطع الكهرباء". بالنسبة إلى العبار، فإنّه "ليس لديّ حل آخر. حوّلتني الظروف من موظف محاسب في شركة محترمة إلى سائق تاكسي. فأنا أنهي دوامي الرسمي في وظيفتي، وأتوجّه إلى هذه النقطة لأنتظر وغيري من السائقين الركاب. فعلى هذا الطريق، لا خطوط سير للحافلات". ويشير إلى أنّه يؤمّن من خلال ذلك دخلاً يومياً يتجاوز 50 ديناراً ليبياً (الدولار الأميركي يساوي 1.40 دينار، بحسب سعر الصرف الرسمي، و5.50 دنانير بالسعر غير الرسمي)، مؤكداً أنّه "لا يكفي لشراء الحاجيات اليومية لأسرته المؤلفة من خمسة أفراد".
من جهتها، سكينة أرملة تربّي ثلاثة أطفال، دفعتها الظروف إلى البحث عن مصدر إضافي للدخل، هي التي تعمل مدرّسة. تخبر "العربي الجديد" أنّها وأربع زميلات لها ألّفنَ مجموعة لصناعة الحلويات، وأنشأنَ صفحة على موقع "فيسبوك" للترويج لمنتجاتهنّ. تشير سكينة إلى أنّ "مجموعات العمل الحرّ باتت تنتشر بين النساء، وهذه ظاهرة جديدة. فالنقص في السيولة النقدية دفع بكثيرات إلى العمل في ظلّ تزايد متطلبات الحياة والغلاء الفاحش". وتوضح أنّ "المتطلبات بالنسبة إلينا تقتصر على الضروري، أمّا الكماليات فلم تعد مطلباً لدى أسر ليبية"، لافتة إلى أنّ "مستلزمات تعليم الأطفال تأتي على رأس تلك الضروريات".
في السياق، يشير خالد السكران لـ"العربي الجديد" إلى أنّه فتح مع صديق له ورشة لصيانة المولدات والمكيفات، "وقد استذكرنا ما درسناه في الكلية الفنية". ويؤكد السكران أنّ "دخلهما الشهري من هذه الحرفة يكاد لا يكفي المتطلبات الضرورية لأسرتيهما". يُذكر أنّ الوجوه الليبية راحت تكثر في الشوارع التي تضمّ أسواق خضار وورشاً فنية، بعدما كانت اليد العاملة الأجنبية هي المسيطرة.
وتكثر المشاهد التي تصوّر اتجاه المواطن الليبي إلى العمل في وظائف ومهن جديدة بهدف توفير سيولة نقدية لمواجهة متطلبات الحياة. وقد دفع هذا الأمر بعض الناشطين والجمعيات إلى تشجيع الناس في اتجاههم إلى احتراف مهن مختلفة. ويقول في السياق رئيس جمعية "بلادي" التي تُعنى بالشؤون الشبابية، بلقاسم حميدان، لـ"العربي الجديد"، إنّ "الجمعية نظمت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي دورة لتعليم مهن للشباب، امتدت على أسبوعَين. وقد شارك فيها ثمانية شبان تعلّموا مهن الحدادة وإصلاح السيارات على أيدي أصحاب مهن متطوّعين". ويؤكد حميدان: "نطمح إلى توفير فرص عمل للشباب وليس لدينا أيّ مانع في انضمام شرائح أخرى غير شبابية، ليكسبوا قوتهم بدلاً من الوقوف في طوابير المصارف التي لن يحصلوا منها على شيء". ويشير حميدان إلى أنّه يعتزم عرض "تصور كامل حول هذا الموضوع لمؤسسات المجتمع المدني عبر وزارات الدولة لتُنشئها في أكثر من منطقة. فاكتساب مهن سوف يوفّر على الناس مصاعب كثيرة ويؤمّن فرصاً للشباب الذي يعانون من البطالة التي قد تجرّ بعضهم إلى الانحراف".