ليبيا الاستثناء
عودة ليبيا إلى قلب الأحداث عربياً، والانشغال الإعلامي بها اليوم، بعد فترة من الإهمال والإغفال، تأتي بدفع من مركبات وعناصر غير ليبية. تعود ليبيا من بوابات الآخرين، لتتأكد حالة ليبيا ثورة ودولة ومجريات، استثناءً عربياً يكشف الكثير.
الملاحظ أن السنوات الماضية، وتتابع أحداث ومنعطفات متشابهة في دول الربيع العربي، دفعت إلى بناء نموذج تحليلي وتنظيري عن حالة الثورة، أو الثورة المضادة، أو حتى المؤامرة. بات لدينا مدونة مفاهيم وخطابيات محددة، يستخدمها كل طرف، ويمكن القول إن نماذج تحليل وتضليل استقرت، وباتت مدخل النقاش العام بشأن أي شأن عربي.
وفي ظل هذه الحالة، كانت ليبيا دوما استثناء، وليس الاستثناء متصلاً فقط بمرحلة الثورات، بل سبقها، فليبيا بعيدة منذ أمد، غيّبها الاستبداد، وتواطأ الإعلام العربي والغربي على نقل صورة وحيدة للمستبد ومغامراته. ومنذ الثورة، دخلت ليبيا في خانة استثناء جديدة، وظلت بحاجة لمعايير وتقيمات ومواقف مختلفة.
على الرغم من كون ديكتاتورية القذافي، واستبداده الأقرب إلى الصورة الجافة الفجة للديكتاتورية، واضحة وبدائية بخلاف الديكتاتوريات الأعتى المتجملة بالانتخابات والخطابات المتربرلة والادعاءات الحضارية، بدت تلك الديكتاتورية محكومة بالاستثناء، وكذلك الثورة الليبية، كانت عسكرتها سريعة ومن دون معارضات وإدانات، وظل الاعتراف بالثورة والتبرير لها قائما مع العسكرة، نظراً لفجاجة الخصم ووضوح خطابه وسلوكه، أو لاستثنائيته ببساطة، ولم يكن تبرير السلاح في ليبيا ليبرر سلاحا في سورية، مثلاً، وسط إصرار على تثبيت الفوارق بين نظامين استبداديين. وصولاً إلى مشهد قتل القذافي الذي لم يشغل المحللين والحقوقيين، ومر سريعا.
ليبيا منذ الثورة ساحة جانبية متوارية، يسمح فيها بما يمنع في غيرها، يصر كثيرون على اعتبارها مجرد قبائل متناحرة، ولا يرون في الأزمة الداخلية أكثر من ذلك، ويصر الإجماع الدولي على التعامل معها حتى اليوم، كمخلف استعماري بنفطه وثرواته، وهذا لا يثير حفيظة أحد. حتى التثبت الإعلامي من صحة ما ينقل من ليبيا لا يبدو أولوية، يقول النظام المصري إنه قصف ودمر وفجر وانتقم واعتقل، وتتحدث وسائل إعلام مصرية عن عمليات نوعية لقوات خاصة، ولا مجال لفحص الزعم والادعاء، وتستطيع قوى ليبيا أن تقول إن قتل مصريين وذبحهم لم يتم في ليبيا، وكل هذا خارج خانة ما يمكن التثبت منه.
ولكن، ما نشهده منذ قتل المصريين فيها ينبئ عن تغير ما، فالحالة الليبية، طوال الفترة الماضية، لا تنطبق على النموذج الذي بنته جميع الأطراف في السنوات القليلة الماضية، للتعاطي مع الثورات العربية، فيها نتوءات كثيرة، والتي تبقي التصورات السائدة مهلهلة، غير قابلة للتداول السهل المريح. لذلك، تتم تنحيتها عن النقاش بشكل واع وغير واع.
وبمنطق اليوم، الحالة التي تُثبِت بطلان التحليل، لا بد من إغفالها وإسقاطها، بدل التركيز عليها، لأنها تشير، بكل قوة، إلى ضعف المقولات السائدة. والمنطق المركب والمعقد والمهووس بالمؤامرات، يفشل في التعامل مع بديهيات حاجة الناس لكسر الاستبداد وإسقاط نظم بالية. ولذلك، تبدو ليبيا شيئاً خارج القدرة على الفهم.
مشكلة الحالة الليبية، اليوم، هي في وضوحها وبديهيتها، استبداد جمد البلاد وحراكها السياسي وحولها لحديقة خاصة، واستعمار ينهب المقدرات، وشعب يطالب بحكم جديد وحياة جديدة، ودول جوار تحاول تسوية مشكلاتها الداخلية على أرض أخرى.
بات وضوح الحالة الليبية مصدر تهديد لمقولات الاستبداد والثورة المضادة، وصار لا بد من تعقيد الحالة وتركيبها، حتى تناسب المعالجات الرائجة، كأن تزج فيها المعضلة الطائفية، وإن كانت ليبيا أصلا من دون طوائف، وإن لم يفلح التعقيد والتركيب مع الحالة البسيطة، فلا بد من إسقاطها من النقاش العام، وتغييبها والتعتيم عليها.