"ألم تجد ما ترسمه غير هذا الرجل الذي يحمل صخرة على ظهره؟!"، قالت لي إحدى القريبات معاتبةً، عندما أهديتهم لوحة تمثّل "أوبيليكس"، الشخصية المعروفة في القصص المصوّرة "أستريكس"، وقد ظننتُ أنّني بهذا العمل أُدخل البهجة في نفوس أولادها الصغار. غير أنني نلت حينها "حمّاماً" بارداً، عقاباً على ما اقترفته يداي!
كانت قريبتنا، وهي من سكّان بلدة صغيرة، تودّ لو أنني رسمت صورة تتعلّق بديننا الذي نعتقد، أو ربما ـ على الأقل ـ منظراً طبيعياً، بدلاً من ذلك "المسخ" كما وصفته. في الحقيقة، جرت هذه الحادثة الطريفة في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، فهل تغيّر شيء من وقتها حتى الآن؟
ربما تختلف التقاليد في تزيين المنازل بالصور واللوحات ما بين سكّان المدن وسكّان المدن الصغيرة أو الأرياف، أو ما بين أتباع دين وآخر. وكذلك، ربما تختلف هذه التقاليد في البقعة الجغرافية الواحدة أو في الدين الواحد ما بين الأسر الميسورة والأسر الفقيرة، ما بين أصحاب العلم والثقافة وبين من لم تُتَح لهم فرصة التعلّم؛ لكن هذه التقاليد لم تتغيّر كثيراً على الرغم من تغير الظروف والانفتاح على الثقافة الغربية بشكل أوسع مع ثورة الاتصالات. فالأولويات والذائقة بشكل عام بقيت هي، وإن تشذّبت قليلاً لدى البعض، كما بقي الانتماء الاجتماعي للناس ومستواهم الثقافي يتّضحان من خلال اختيار قطع الزينة التي منها الصور واللوحات.
من خلال الاطلاع والمتابعة، يُمكننا أن نستنتج أن الذائقة لدى عامّة الناس، أو الأمر الأساسي بالنسبة إليهم، هو أن يعلّقوا على جدران منازلهم لوحات تشهد على إيمانهم، تحميهم وتبعد عن بيوتهم العين الحاسدة، ومن ثمّ تأتي صور الأشخاص، رب العائلة أو الجد والأولاد الصغار، ومن ثمّ المناظر الطبيعية...
ولمّا كان أمر تحريم الصور شائعاً، تقوم العامّة بتزيين الجدران بلوحات مكتوبة بأنواع الخطوط العربية التقليدية. في أوّل القائمة المرغوب بها، تأتي سور وآيات من القرآن، مبارِكين بذلك البيت وسكّانه؛ كسورة "الفاتحة" وآية "الكرسي"، ومن ثم تأتي بعض الأحاديث أو الأقوال العربية المأثورة.
ومن هذه الآيات ما هو محفور على المعدن المُذهّب أو على الخشب، أو المطبوع على الورق أو على المنسوجات، ومنها ما هو مكتوب باليد مباشرة بخط اليد على الورق أو القماش. وقد دخلت من بضعة عقود أنواع من الخطوط الحديثة التي يوفّرها الحاسوب، وهي غالباً ما تكون بلا نكهة. تُباع أغلب هذه المنتجات "الفنّية" لدى بائعي البراويز أو صالات عرض المفروشات أو ما شابه.
كما نجد، وبالتقنيات نفسها تقريباً، الصور والأيقونات التي تمثّل السيّد المسيح أو السيّدة العذراء أو مشاهد متخيّلة من الكتاب المقدّس. ولا ننسى، هنا، الإشارة إلى الأعمال التي تشتغلها النساء بالخيوط أو بالخرز الملوّن، والتي نُسمّيها باللغة الدارجة "كانفا".
ومن الطريف في هذه التقاليد أن يختار الكثيرون لوحة "العشاء الأخير"، نسخة ليوناردو دافنشي، لتزيين غرف الطعام، باعتبار أن المشهد يحتوي على مائدة فيها طعام وشراب، دون أن يتذكروا أن الحكاية الإنجيلية هي أبعد ما تكون عن تصوير ملذات البطون.
أمّا الطبقة البرجوازية أو المثقّفة التي هي على احتكاك مع الغرب بحكم العمل أو الدراسة، فقلّما يضع أهلها لوحات دينية في غرف الاستقبال. مع ذلك، لم يكن هناك ما يمنعهم من تعليق صورة أو آية بحجم صغير عند باب البيت، أو في غرف النوم وفي غرف الأطفال. ومنهم الكثير ممّن ليست لديهم مشكلة مع "الصور".
وهذا التمسّك بتعليق لوحات وأشياء تخصّ الدين في المنازل، نجده أيضاً خارج المنزل: في ورشات العمل والدكاكين والمحال التجارية؛ فالأولوية له. ويمكننا أن نستثني هنا محلّات الماركات العالمية، وبعض المحلات الكائنة في الأحياء "الراقية" أو تلك التي تتاجر بالسلع الثمينة والبضائع مرتفعة الأسعار، والتي تُزيّن جدرانها بتقشّف مدروس.
وهكذا، فاللوحات المطبوعة والرخيصة تحتل الواجهات والجدران في تلك الأماكن، وحتى أننا نجدها في بعض الورشات بجانب صور الفتيات شبه العاريات… فلكل صورة وظيفتها، ساعة لك وساعة لربك.
ومن طريف ما يمكننا ذكره هنا، هو تقليد عند باعة الحلويات يتمثّل في تعليق لوحة، أو الكتابة مباشرة على الزجاج أو الحائط الآية القرآنية "يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا كُلوا مِنْ طيِّباتِ مَا رزقنَاكُمْ واشْكُرُوا لِلَّه إن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبدون"، مع تمييز "كلوا من طيبات ما رزقناكم" بخط أكبر، وأحياناً كتابتها دون الجملة التي سبقتها أو تلتها... فالحلويات طيّبة!
أمّا الآية الثانية والتي حفظناها صغاراً من كثرة ما كنّا نراها في المحلات التجارية التي نتردّد إليها، فهي المكتوبة فوق الباب أو على الواجهة أو في صدر المكان وراء طاولة صاحب المتجر، وهي من سورة الفتح: "إِنَّا فتَحْنا لكَ فتحاً مُبيناً".
وبما أننا قرأنا شيئاً عن سبب نزول هذه الآية، فلا زلنا نبحث عن سبب اختيارها هنا دون غيرها من الآيات، ربما من تربّى على يد خطّاطي زمان يعرفه، كي لا نقول إن التجّار يحبون كلمة "فتح" هنا، لأنها تُذكّرهم بكلمة "استفتاحية"، وهي عبارة عامية تدلّ على أول عملية بيع يقوم بها المتجر بعد أن يفتح أبوابه.
* فنان تشكيلي سوري