لن يكتفي الفلسطينيون بالفتات

14 نوفمبر 2018
+ الخط -
كل ما قيل ويقال، ويبحث أو سيبحث في الكواليس الدبلوماسية والسياسية، وفي الزيارات التي باتت معلنة، أو على طاولات التفاوض، في شأن ما تسمّى صفقة القرن، لإنجاز أو لفرض حل سياسي "تفاوضي"، لا يبدو، من الآن وحتى يحين الموعد المقرر، أنه سيخضع لتفاوض فعلي، بالسر أو بالعلن. ولم يعد ما جرى الإعلان عنه يخفي مزيدا من الفضول، منذ قرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الوقوف عاريا أمام القوة الإسرائيلية الكولونيالية وخرافات توراتها وسرديات أساطيرها، مانحا لها كل ما ليس لها، من القدس إلى الأرض، كل الأرض، مانعا الفلسطيني من الحلم بحق العودة، ومانعا وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) من تقديم خدماتها والسهر على حياة اللجوء والتشرّد، تلك التي جادت بها علينا نكبة العام 1948، وما تلاها من نكساتٍ ونكباتٍ صغرى، باتت تكبر، هي الأخرى، على وقع وضع فلسطيني وعربي وإقليمي، لم يعد يخجل من عُريه أمام أنظار العالم، وهو يقيم علاقاتٍ تطبيعيةً وتجاريةً وأمنية جدية مع كيان الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي. وكأن القضية الفلسطينية ذاهبة نحو أن تغدو هباءً لا يهتم بها أحد، حتى بعض أصحابها وأقرب المقربين، طالما أن المصالح السلطوية أضحت البديل عن القيم والمبادئ التحررية. كما أضحت سلعة استهلاكية في سوقٍ يتحكّم فيه الجشع والطمع ومنطق السلب والنهب والاحتيال والسرقات المكشوفة، ليس إزاء المال، وما يمكن تحويله إلى أموال، حتى الأراضي والأوطان أصبحت سلعا تحويلية، يمكن مقايضتها، والتحوّل معها من سلطةٍ إلى سلعةٍ قابلة للمساومة، ومن سلعةٍ يمكن تحويلها إلى سلطةٍ ترتهن لمن يدفع أكثر.

يبدو الفتات الذي يجري ترصيده للفلسطينيين بموجب الصفقة أنه بات مقرّرا سلفا، إذ لن تجدي معه مفاوضات؛ هي في الجوهر شكلية؛ سرّية كانت أو علنية. لا سيما وأن مسلسل حفلات التطبيع والزيارات التي بدأت تأخذ طابعا علنيا منسّقا بين أطراف فلسطينيةٍ وجهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، إنما هي في الحقيقة صفقات صغرى، تقدم إسهامات جدّية لـ "صفقة القرن" الكبرى، حيث يجري الالتفاف على القبول بها، والتعاون من أجلها، من خلال الزيارات المتبادلة التي جرت أخيرا، بتنسيق بين سلطويي قوى التنسيق الأمني داخل الأراضي المحتلة، وامتدادا نحو قوى التنسيق السياسي في المحيط الإقليمي، حيث لم يعد أصحابها يخشون انكشاف أدوارهم، مع تورّط قوى سلطوية فلسطينية عديدة على جانبي الانقسام، في تسهيل مهام أطراف الصفقة، طالما أن حصتهم محفوظة، أو هكذا تبدو الأمور قبل أن تقوم قيامة مفاوضات صفقة القرن، وما تعد به من "عصر" الحقوق الوطنية الفلسطينية حتى الرمق الأخير، بحيث لن يبقى للفلسطينيين سوى الفتات المعروض عليهم، للقبول به شرطا وحيدا لقيام "شراكة الأعداء" على حساب النكوص والتراجع عن "شراكة الأشقاء"، بمعنى استمرار الانقسام سيد مرحلةٍ من أظلم مراحل الكفاح الوطني الفلسطيني، ليجري استبدال برنامج أو برامج إستراتيجية الكفاح والتحرّر الوطني، بتكتيكات الاحتفاظ بالسلطة الفئوية. حينها لا يهم إن كانت شرعيةً أو غير شرعية. المهم تسييد المنطق السلطوي حاكما لشعبٍ يسعى إلى التحرر الوطني، لا لاستجلاب السلطة "طوطما مقدّسا" لفئوياتٍ فصائلية، تذهب بعيدا في تكريس انفصامها وانفصالها عن أهداف شعبها الوطنية.
وكما كانت اتفاقات أوسلو التفافا على مفاوضات مدريد، يبدو أن الدور العُماني، وأدوارا إقليمية أخرى، تسعى إلى أن تكون مقدمة لاختراقٍ باتجاه الصفقة، مقبول من الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، وبموافقة أميركية وغطاء إقليمي، حتى أنه لم يبق من معيقاتٍ أمام الإعلان عن مضمون الصفقة في الأسابيع المقبلة. وقد تبقّى بعض الرتوش الأخيرة التي تتكفل بها دبلوماسية المفاوضات السرية التي قادت إلى اتفاقات أوسلو، وما تلاها من مفاوضاتٍ سرية، لم تستطع حل الخلافات التي برزت وما زالت تبرز؛ وهذا كله جرّاء غياب الوضوح والشفافية في عملية "تهريب" مفاوضاتٍ، يقدّم فيها الجانب الرسمي الفلسطيني مزيدا من التنازلات الجوهرية، على حساب كامل الحقوق الوطنية؛ المعني بها الكل الفلسطيني، شعبا ومجتمعا وأفرادا وفصائل. وبالتأكيد، ليس الطرف المفاوض الذي جرى ويجري تكريسه "متصرّفا ساميا" بالحقوق الوطنية، وكأن المسألة ملك شخصي، أو فئوي، للمعنيين بالاستفراد بالسلطة، وبمصالحهم.
تقدّم القرارات التي اتخذتها المؤسسات الوطنية، والمماطلة والتسويف في شأن تطبيقها وضرورة تنفيذها من المؤسسات التي اتخذتها، نموذجا فاقعا لكيفية التصرّف بالقرار الوطني، كذلك في المفاوضات، خصوصا السرية منها، حيث يتصرّف المفاوض الفلسطيني بأريحيةٍ كاملةٍ ومطلقة، بعيدا من الأضواء والضغوط الشعبية والفصائلية. والأهم بعيدا من المراقبة والمحاسبة الواجبة من المؤسسات الوطنية، حتى صار الحديث عن الثوابت الوطنية مجرّد لغوٍ فارغ، لا يلزم أحدا، الأمر الذي يجعل من التفريط المقدّمة الفاضحة للنتائج غير المرجوّة. ولذلك، يمكن فهم لماذا الإصرار دائما على سرّية التفاوض، كما وتعطيل قرارات المجلسين، الوطني والمركزي، في منظمة التحرير، وعدم قطع العلاقة بإسرائيل، عبر التنسيق الأمني والتزامات عديدة أخرى.
المشكلة المستعصية اليوم، وكما كانت في السابق، ستبقى تتمثّل في استمرار العمل على تكسير عيدان الوحدة وحزمة الثوابت الوطنية الفلسطينية، وعدم العمل على التئام عناصر فاعلة لجبهة وطنية موحدة، وابتكار وجودها، لتؤسس لبناء استراتيجية كفاحية موحدة لكل ميادين الوجود الفلسطيني في الداخل وفي الخارج، وإلا فإنه ليس من المقبول، لا منطقيا ولا وطنيا، أن يجري التعامل مع غزة على أنها مسؤولية حركة حماس وحدها، أو أن يجري التعاطي مع الضفة الغربية والقدس أنهما ملكية خاصة تحت تصرف السلطة أو "فتح" ومسؤوليتهما، كذلك في
الشتات وفي مناطق 1948 (الجليل والمثلث والنقب) ليست جزرا معزولة، لا علاقة لها بما يجري في باقي ميادين الوجود الفلسطيني وساحاته. الجميع في صلب المهمة المركزية الوطنية، ومرجعيتها الكيانية الموحدة (م. ت. ف)، وهذا ما ينبغي العمل من أجله، وإلا فإن الفتات الموعود جرّاء تنفيذ صفقة القرن لن يقدم لشعب فلسطين حتى أقل القليل من طموحاته الوطنية.
وللخروج من المأزق القيادي الراهن، وحال الانحطاط الذي يشهده الوضع الفلسطيني، في ظل الانقسام المزمن والانفصال القسري، يتحتم العمل على توفير أداةٍ قياديةٍ موحدةٍ ومتماسكةٍ، تؤمن بالوحدة الوطنية الجبهوية المصيرية، كي يكون ممكنا إفشال مخططات التسوية التصفوية، وإلا فإن استمرار النكوص والتراجع سوف يقود إلى مزيد من الخراب والدمار للقضية الفلسطينية ذاتها، بعد خراب أدواتها الكفاحية التي تحول بعضها إلى سلطة، بل سلطات متناحرة، يبحث كل منها عن مصالحه الخاصة الشخصية والزبائنية، وتلك هي العلّة، بل علة العلل التي تقف عقبةً كأداء أمام بلورة استراتيجية كفاحية موحدة، تتكامل من خلالها كل أساليب الكفاح والمقاومة الشعبية والانتفاض، وحتى المفاوضات المتفق على سقفها وحدودها وجدواها، والمدى الذي يمكن الذهاب إليه، بإجماع كلٍّ فلسطينيٍّ وازن، والابتعاد عن المساومات غير المبدئية، أو اللجوء إلى التفريط والمراوغات والخدع، وسط تعتيمٍ تامٍ على ما يجري من صفقات، ليست خليقةً بقوى حركة تحرّر وطني، من شيمها الوضوح والشفافية والواقعية العقلانية، لا تهريب حلولٍ لا تستجيب لأي مطمح وطني عام.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.