لن ألزم بيتي

28 ابريل 2015

أحد أسباب انهيار الأمة بدعة توريث الحكم (Getty)

+ الخط -

لتسمح لي، يا رسول الله، أن لا ألزم بيتي هذه المرة، هرباً من فتنٍ غدت كقطع الليل بظلمتها وشراستها، لسببين، الأول أن بيوتنا كلها لم تعد محصّنة من هجمة الفتن الهمجية، والمتسلّحة بالنصوص والفؤوس، والثاني لأن ترك البلاد والعباد على غاربها لهؤلاء الأدعياء يعني أن الله لن يُعبَد في هذه الأرض أبداً. وهنا أقتبس عنك نصاً أطلقته في معركة بدر "اللّهُمَّ إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض أبداً"، وكنت تقصد بالعصابة تلك الفئة القليلة من أصحابك التي قاتلت المشركين في تلك المعركة الفاصلة.

استوقفني هذا النص كثيراً، أيها الحبيب، لأن فيه خروجاً على مألوف العلاقة بين العابد والمعبود، والقائمة على مجرد التلقي فقط، ولا أدري لماذا شعرت بأنك تقدم في هذا الدعاء درساً بليغاً لنا، قوامه أن من حق المعبود أن يبدي رأيه، ويحاور حتى خالقه إذا لزم الأمر، في سبيل المصلحة العامة، فكأنك استنَنْتَ لنا سنّة لم نأخذ بها، حين وضعنا النصوص في ثلاجات الموتى، وجعلناها مقدساً لا يرقى إليه أي تأويل أو اجتهاد.

لن ألزم بيتي، يا شفيعي، لأنك علّمتني أن النص وضع في خدمة الإنسان، والإعلاء من شأنه، ولم يوضع الإنسان لخدمة النص، ولأنك جعلتني أقف احتراماً عند مرور الجنازات أمامي، من دون أن أسأل عن ديانة موتاها، وغدوت أحترم يهودياً مثل المفكر نعوم تشومسكي الذي اعتبرته إسرائيل يوماً ألدّ أعدائها، فيما أراهن لو أنه وقع بقبضة أصحاب الفتن المظلمة، لذبحوه ذبح النعاج، إن لم يكن لقاء يهوديته، فلجنسيته الأميركية، وسيرقصون رقصة الموت حوله، على الرغم من أنه أحد أكبر مناصري الهمّ العربي، وسيكون مبررهم أنهم يلتزمون بـ"النص".

أيضاً، اسمح لي، أيها القدوة، أن أنصح مسلمي أميركا والغرب أن يستجيروا بـ"الملاحدة"، هذه المرة، ضد اضطهادهم، لأن الإحصاءات الموثوقة في أميركا تشير إلى أن أكثر الفئات تعاطفاً مع الجالية المسلمة هناك هم فئة "الملاحدة"، ولن أضيف "الشواذ"، لأنني أعلم أن مجتمعاتنا لن تتقبّلهم. لكن تلك هي الحقيقة، لو نظرنا بأكثر من عين واحدة إلى التحولات الإنسانية العميقة في ذلك العالم الذي نأبى إلا أن نواصل شتمه صباحاً، وتقبيل أرجله ليلاً.

لن ألزم بيتي، يا حبيبي، لأنني تعلّمت منك أن أعظم الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر، ولن يسمع حاكم هذه الكلمة، إذا بقيت تُرَدَّد بين جدران البيوت فقط، ثم إنك علّمتني مبادئ انتخاب الحاكم بالشورى، ولم تسمح لنفسك أن تستنّ سنّةً تقول بعكس ذلك، فلماذا أقبل أن تحكمني سلالات محنطة، ولماذا لا أعيد محاكمة التاريخ نفسه، فأتجرأ على القول إن أحد أهم أسباب انهيار هذه الأمة تمسّكها ببدعة توريث الحكم، منذ العهد الأموي، وصولاً إلى زعمائنا نحن الذين عدّوا هذه البدعة "نصاً" مقدساً لا يجوز التشكيك بصحته، بل راحوا يطالبوننا حتى بالدعاء للسلطان الجائر. واسمح لي، أيضاً، أن أقول كلمة حق عند معارضات جائرة هي الأخرى، يناطح بعضها بعضاً بلا قرون، ديدنها الشماتة بالآخر من بني جنسها لدى تعرّضه للبطش والتنكيل من الأنظمة الحاكمة، بينما تعلم جيداً أن حالها لن يكون أفضل إذا آن أوان أكلها.. معارضات أشد قسوة وقمعاً، إذا حالفها الأجنبي، وهيّأ لها فرصة السلطة، كما حدث في العراق.

لن ألزم بيتي، يا حبيبي، حتى تدرك أمتي الفرق بين "التقديس" و"التحنيط"، وتعلم أن قطرة دم بريئة واحدة كفيلة بهز كل القداسات، ما دام عرش الإله نفسه يهتز غضباً لها، فكيف بكل هذا الذبح اليومي الذي صرنا محمولين على معايشته، تحت سلطة "النص" أو سلطة الحكم، لا فرق، ولا أحد يجرؤ أن يعطل نصاً واحداً يحقن فيه دماً بريئاً، كما فعل ابن الخطاب في عام الرمادة.

سامحني، يا محرّضي الأول، فلن ألزم بيتي بعد اليوم.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.