لم يبق مني سوى الكائن الأخير

28 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونيه (Getty)
+ الخط -
ذباب في فمي الفاغر

I

الثراء الحقيقي للرجل هو نقصانه
وبهذا المعنى أنا في بحبوحة.
الكلمات التي تقبلني كما أنا - لا أقبلها.
لا أتحمّل أن أكون مجرد خادم يفتح الأبواب،
أو يسرّح المجاري، أو ينظر في ساعته، أو يشتري خبزًا
على السادسة مساء، أو يخطو خارج البيت، أو يبري
أقلامه، أو يمحّص حبات العنب، وهكذا.

اعذروني، فأنا أريد
أن أكون الآخرين، أن أساند البشر
بالفراشات.

II

عند ولادتي، لم أكن واعيًا ولم أرَ
إلى الساعة
كان ذلك منذ دهر مضى
على ضفة نهر.
فقد متُّ أربع عشرة مرّة من قبل
ولم يبق مني سوى الكائن الأخير.
ألّفتُ أربعة عشر كتابًا
أنا في حلّ منها
كلّها تكرارٌ للأوّل.
(في وسعي انتحال شخوص آخرين لو شئت، لكني لا أستطيع الإفلات بعيدًا)
غرست ثماني عشرة شجرة. وقد تكون أربعًا.
أحببت بالظن والتخيُّل، تسعين فتاة،
وقد تكن تسعًا.
ابتكرت ما يشبه الأشياء، خمسًا وثلاثين
وقد تكون إحدى عشرة.
دعوني أسرد عليكم أكثرها رثاثة: مقص للمجرّة،
مفتاح أوّل البزوغ، إبزيم
لحزام الصمت، […] ، الخ. أعترف:
بأن تسعين بالمائة مما أكتبه
كلام ملفّق؛ عشرة بالمائة منه فقط كذب.
إنني أتوق لأن أموت فوق ربوة على ضفة النهر
بلا ذباب في فمي الفاغر.


III

أنا في الحقيقة كائنان.
الأوّل هو ثمرة حب بين جو وأليس.
والثاني من أحرف؛ ثمرة الطبيعة
التي تفكّر بالصّور، كما يقول "فاليري"
في وسعكم أن تروا إلى الأول كأظافر وقمصان وقبعة ومشاعر من الغرور.
والثاني كأحرف، وألفاظ، وعبارات خاوية كهذه.
كلانا سيقبل حين تمنحوننا الحب أن يكون لنا معًا.

IV

كل ما لم أخترعه فهو باطل.

***

لست في حاجة إلى نهاية للوصول.

***

النقاء هو ما يجعلني مدنسًا.

***

هنالك طرق جديّة كثيرة لتقول لا شيء. لكن وحده الشعر يظلّ حقيقيًا.

***

الشيء الذي هو أكثر حضورًا في نفسي، هو ما أفتقده.

***

أفضل طريقة لمعرفة نفسي، هو أن أفعل عكس ما أريد.

***

الحكيم هو من يخمن وحسب.

***

لبلوغ اليقين عليّ أن أعرف مزيدًا من العيوب.

***

قصوري الذاتي هو تصرفي المبدئي.

***

لن أخرج من داخلي حتى ولو كان ذلك خروجًا للصيد.

***

تُخْفيني الكلمات بكثير من اللامبالاة.

***

شهود العيان يفسدونني.

***

من المكان نفسه حيث أنا الآن، أكون قد غادرتُ سلفًا.



لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونوي - ملحق الثقافة 


لا يكون لك مكان تذهب إليه

[...]

شيء جميل
أن تنام على سرير حجري
بارد ومائل
أن تترك كل شيء
على سنّ خنجر.

شيء جميل
أن تكون كائنًا
يزحف على الصخور:
أن تكون عروق نبات
أن تكون مياهًا.

شيء جميل أن تمشي كغريب
بعد الظهيرة
تحلّق فوقك طيور
وريح في ثيابك الصفراء.

ألا يكون لك أبدًا مكان تذهب إليه.
ألا تختار شيئا أبدًا.
أن تواصل السير متضائلًا تحت المطر
مترنحًا كشجرة تفاح.

شيء جميل أن تقعي في نهاية المطاف
بين أحذية بالية
مثل كلب
مثل شوكة مهملة تحت الرمال.

[...]

شيء جميل
أن تكون مثل نبات
متجذر في الأرض: يابس وأجوف
يغمرك الرمل والنمل والنعاس.
أن تكون صخرة في الظل (فريسة للطحالب)
فاكهة ناعمة فوق التراب، عرضة
لكل شيء ...



رجل تتعاظم شجرة في صوته

رجل "وحيد كجسر" رَآه
من "الفيراندة" جماعة من المجانين
كانت هناك شجرة تتعاظم في صوته
وحقلًا كان وجهه

***

بعد أن اجتمعت بأليوشا كرامازوف
تركت ورائي بيت الأموات
وبقدمي كنت أتقصى الأشياء الصغيرة
على الأرض قرب البحر
فمي أبكم
وأنا أستعرض ملامح لذبابة الفاكهة

***

لم تعد تريد الأشياء أن يراها
عقلاء البشر:
تريد بالأحرى أن يروها في الأزرق -
مثل طفل تنظر إليه كما تنظر إلى طائر


بيدرو نوراتو

في زنزانة "بيدرو نوراتو"، منذ عشرين عامًا في الحبس
يغفو الموت مستلقيًا ورجلاه مشرعتان

***

أخبرني نوراتو بأنه عثر على امرأة في إبريق وشربها
إننا، بلا حب، نعثر على أنفسنا مع الله. هكذا أخبرني
فالعالم ليس نقيًا تماما كحصان، قال لي.

لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونوي - ملحق الثقافة 


أبتكر روائح للأشجار


أن تلمس حميميًا العالم، سيكون من الجوهري أن تعرف:
أ‌) أن بزوغ الصباح لا ينفتح بشوكة الطعام
ب‌) كيف تعدّ زهرة البنفسج النهار لموتها الخاص
ج) لماذا الفراشات ذات الخطوط الحمراء أكثر وفاء لشواهد القبور
د) أن رجلا يتلصّص على نفسه في جبهة القتال سينجو حتمًا من الموت
ه) أن النهر الذي يجري بين زهرتي خزامى أكثر هشاشة من الذي يتدفّق بين زاحفتين
و) كيف تنتحل صوت سمكة
ز) وأي جانب من جوانب الليل سيعتم أولًا
إلخ.
إلخ.
فألا تتعلم شيئًا لثماني ساعات من النهار سيعلّمك مبادئ كهذه.

***

أن نحلّ في كينونة الشجرة سيكون من الضروري
أن نبدأ مع وزغة* سباتية
على الثالثة بعد الظهر في شهر أغسطس
ثم في خلال عامين، سيبدأ الخمول والأعشاب القميئة
في توسيع فمنا. وسنعاني
من تشوّه غنائي بسيط
إلى أن يطفح العشب من كلامنا.
أما الآن، فأنا أبتكرُ روائح للأشجار.


لم أكن بحاجة إلى قراءة سانت بول، أو سانت أوغسطين،
أو سانت جيروم، أو توماس الإكويني
ولا حتى سانت فراسيس الإسيزي
كي أصل إلى الله.
النمل دلني عليه.
"معي دكتوراه في النمل"


* من أنواع السحالي

ترجمة عن الإنكليزية الخضر شودار
دلالات
المساهمون