لم يبقَ لي من الثياب إلَّا ضحكتي

18 يناير 2019
(أتونيل غيفارا في لوس أنجلس، تصوير: أنجليس مونيوز)
+ الخط -

تغيُّر مناخي
تُراك مُصغياً لعصف الريح ينساب من بين الأشجار؟
ما تلك الريح
وإنما أشباحها.


■ ■ ■

تساؤل
أين كان ينتهي
بنا المطاف
لو أنّنا
لم نخُض هذه الحرب مفرطة الدموية؟

ربما
كنا سنبقى
على قيد الحياة.


■ ■ ■


مطر
سلحفاتان عجوزتان
تلهوان في عتمة الباحة
أقول عجوزتَين لأنّي
لم أرَ لهما أثراً
منذ شهور خلت.
ربما كانت العتمة هي الموت.

النجَّار الشيخ الذي لا أصابع له
يضرب على قيثاره
وشجرةٌ لم تكتمل
تُمليه الأنغام
والمنشار الدقيق يلوذ بروحه مطأطئ الرأس على الدوام.

سجالٌ يدور بين الزيزان باللسان الآرامي
حول توزيع القيظ
معجزةٌ هي المياه
والمطر جيشٌ به مَسٌّ من الجنون.

أمّا أنا فأترقَّب عناقك
محاطاً بالحجارة.


■ ■ ■


شاعر. طبيعة غير مرغوبة

"لن أنعم بالسلام ما حييت"
الغضب، بيير باولو بازوليني

طلبوا مني الحقيقة، ومنحتهم الحقيقة.
فما كان منهم إلَّا أن كفَّنوها.
لم أستغفر الرب إذ دلفت إلى معبده بحذاء غارق في الوحل.
لم أُبلّغ الشرطة عن أيٍّ من المجرّمين الذي تعدّوا عليّ.
ولمَّا أدليتُ بصوتي مُنِيَت الأغلبيةُ بالهزيمة،
كما هو دأبها.
وحين لم أُدلِ بصوتي كذلك.
توقيعي لا يُذيِّل "اتفاقيات السلام".
سمحتُ لأعدائي باستغلالي شرّ استغلال.
أثارت لا مبالاتي أصداء واسعة.
لم أفلح في السُّكْر إلَّا من فرط اللذة.
عجزتُ عن ترويض هذا اللسان اللئيم
عجزاً لا شفاء منه.
خضتُ مشاريع تجارية مفعمةً بالغباء.
لا أعرف كيف أسبح، كيف أبصق، كيف أدفن أصدقائي.
لا أملك رخصة قيادة ولا مفاتيح لبيتي.
أنشر الفزع بقهقهاتي.
لا أعرف كيف أختار الثياب،
لا على "الموضة"، ولا على غير "الموضة".
لم أستشِر الطبيب يوماً.
لا أتعطَّر ولا أضع مزيل العرق.
أمقتُ أساتذة القانون،
أمقتُ السيرَ تحت أشعة الشمس، ونحيبَ الآخرين.
فارقَت أصدقائي الحياة.
ما لي بطاقة ائتمانية ولا حساب في البنك،
إن هو إلَّا قليل من الغضب
وقليل من النعاس.


■ ■ ■


شارل بودلير. 2017

"جناحاه العملاقان يحولان دون الطيران ودونه"
طائر القطرس، شارل بودلير

لا بحَّارة،
وحدهم القراصنة،
والقوارض،
والمُهرِّبون.

لا نجوم،
وحدهم العجزة،
والمُوسوسون،
وأطفال مصابون بالأعيرة النارية.

لا محيطات،
لا مراكب،
لا غلايين،
ولا حتى رحمة.

هوذا الشاعر يخترق السماء،
في طيران مفعم بالسخط،
لا سبيل إلى إدراكه،
بألمه الذي لا طائل يُرْجَى من ورائه.


■ ■ ■


فرانكلين. الخامسة مساءً

"إن ربّاً يعلن عن مقدرته،
لهو رَبٌّ لا معنى له".
أعياد الميلاد، راينر ماريا ريلكه

في صغري
كنتُ أخرج تحت زخَّات المطر
مُفتِّشاً عن ملاذ الطيور.
لم أعثر عليه قط.

ولكني ما زلتُ أؤمن
بأن الرَّبَّ يحمل إليها المناشف
في فردوس ما،
فردوس بلا أمل.


■ ■ ■


أبدية وشعر
إنما الأبدية ألَّا يعثر المرء يوماً
على قبر أخيه.

أمَّا الشِّعر
فلن يسري حكمُه على البشر أبداً.

16 سبتمبر 2007


■ ■ ■


عن فنون التحرُّر
إنما النشوة الأكثر جموحاً
تنطوي على ألم وحشي في الجسد.

أمَّا القصيدة،
فلا تعدو أن تكون وخزاً لا ينتهي
في الضمير.

18 يونيو 2007


■ ■ ■


آثام
وُلِدْتُ حتى يقيم الألمُ حفلاً
لألف عام.
أُطْلِق عليَّ اسمٌ
كي أخضع للملاحقة عَبْر الأدغال
وأُعطِيتُ وجهاً
حتى يُشار إليَّ بأصابع لا ترحم
لأني تركتُ نفسي لثورة النهر تهدهدني
لأني تجاسرتُ وحلَّقتُ بين مخالب الريح
لأني تجرَّأت واحترقتُ بجمر العشَّاق
وجعلتُ من قلبي جذراً في هذه الأرض.
لن تروني أقرّ بكوني آثماً
ما حييت
وبهذا الحبّ أسدِّد لكم ديني.


■ ■ ■


عن آلهة
عرفتُ شخوصاً من ذوي النفوذ العظيم
لهم قدرة على ابتياع الشعوب،
والحياة،
والكويكبات.

ليس بينهم شاعر واحد.


■ ■ ■


ليس خبراً
ليس خبراً عند صحف السلفادور
أن يخلدَ إلى النوم
طائرٌ طنَّان.


■ ■ ■


حذار
حسبكم، لا تُضجروا النفوس
بنصوص مُقدَّسة،
ناهيكم عن نفسي أنا،
وأنا الذي عملتُ بلا هوادة
لإحكام أواصر صداقتي
بالمخبولين.

إنما المُقدَّسات تسكن هيكلي
تسكن هديرَه الخليق بمركب شريد.

وأمَّا كتابي المُقدَّس فهو العشب الثرثار
ذلك الذي أتى على قضبان السكك الحديدية.

أنا الذي أتفاوض من أجل السلام حقّاً.
وأفجِّر السجون كافةً.
لا تتركوني أغيب عن أبصاركم.


■ ■ ■


كنوز
فقدتُ أضراسي كافّةً.
خلعتُها.
بيديَّ العاريتَيْن.
لم أحظَ بأقمصة أنيقة بحق
إلَّا فيما ندر.
فبَلِيَت تحت وطأة مُبيِّض الثياب.
والاستعمال.
والنظرات.
لم أنتبه لشيء مما خسرت،
لم أدرك كم تأخَّر المساء.
لم يبقَ لي من الثياب إلَّا ضحكتي.
وحده الموت قادر على رؤيتي عارياً،
راقداً في سلام.


■ ■ ■


أودُّ الكتابة
أودُّ الكتابة
فلا يخرج مني سوى العشب.


■ ■ ■


رتابة
الضوضاء نفسها،
الأصوات نفسها،
مراراً وتكراراً على مدى الأعوام.
إيقاع الساعة واحدٌ لا يتبدَّل.
ولكن الأمطار انهمرت في أعياد الميلاد.
والشمس تحرق بلا رحمة، وقد أشرقت جديدةً كل الجدَّة.
والنحل يلوك زهرة قرنفل بوحشية.
والملائكة تملأ السجون.
وعَبْرةٌ وحيدةٌ
تشغل حيِّزَ الموت بأسره.


■ ■ ■


طائر طنَّان
طائرٌ طنَّان
استقَىَ
من كل موضع في جسدك رحيقاً.

أمّا ذلك الخال
حيث أطبع اليومَ قبلةً
فهو الأثر
الذي نزل من السماء.


■ ■ ■


حكمة الجَدَّة
قالتها لي مرّةً لا ثانية لها:
"وحده الرَّب جميل".

فلم أعُد إلى تلك الكلمة مفرطة "الحصريَّة"
حتى رأيت عينَيْك
حتى ابتهلتُ على خصرك.


■ ■ ■


عاشق. لعنة

"ثمة شيء في الهواء،
يطعن في العمر أبدًا".
مرثية، ألفونسو تشيس

هي
لم تخطُ خطوةً من أجل لقياك،
لم تخرق قانوناً واحداً كيما تلثم شفتَيْك،
لم تترك كل شيء من أجلك.

هي
تحبّك كما لم تحبّ أحداً سواك.
أما أنت، فلسوف تقضي وحيداً.


■ ■ ■


جئتِ لتكوني
ما جئتِ إلى هذا العالَم لقراءة الجريدة
أو المزاحمة في طوابير السوبرماركت.

وإنما جئتِ لازدراء قصائدي،
جئتِ كي تتمرَّغي في عسل أيام السبت، أيامي أنا،
وتثيري عواصف من السكون على وسادتي،
وتصنعي من صدرك ونداي المُثلَّج كلمات متقاطعة.
جئتِ لتكوني مطراً يختبر ظلِّي.
جئتِ لتكوني لي عسلاً، وسادةً، كلمات متقاطعة،
لتكوني تلك الأشياء التي
تسري في أشعاري
رغماً عنك.

يونيو 2000، سان سلفادور


■ ■ ■


لا موعد للحُبّ

1
لا موعد للحُبِّ
ولا علامات.

فالحبُّ يسعل مُحاطاً بالسراطين والأمواج
ينسى إقفال الحصون بالمفاتيح
يتعثَّر في الرَّبِّ داخل الحانات
يحترق في بياته الشتوي.

2
عرفتُ الحبَّ لمّا
كنتُ سجيناً
طريداً
مؤمناً بسرِّ الحُبّ.
رأيتُه مصلوباً في الصحراء
في قبور لم تشغلها الجثامين يوماً
في قطرات الضياء، ضياء النغمات المتلاحقة
بل ورأيتُه في بطء الانفجار.

3
ليس الحبُّ حقيقياً إن صُنِّف
إن اشتمل ثمنه على الإكرامية
إن تَرَك الأراجيح بلا ضجيج
إن سَمَّم كلاب الشوارع
إن طُهِي في ماء دور الأيتام
إن غَلَب الواحد والعشرين من نوفمبر الجاري.

4
حُبِّي آتٍ معي.
أمّا البقية،
فلكم أن تُلقوا بها إلى الكلاب.


* Otoniel Guevara شاعر وصحافي سلفادوري من مواليد 1967. شارك في الحرب الأهلية التي عصفت ببلاده في الثمانينيات ضمن "جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني" وكان أحد الأعضاء المؤسّسين لما عُرف بـ"ورشة خيبالبا الأدبية" والتي استمرّ إشعاعها بعد نهاية الحرب الأهلية في 1992. له أكثر من ثلاثين إصداراً شعرياً من بينها: "بعيداً عن العشب" (1994)، و"كفن الهارب" (1998)، و"أغنية مريضة" (2009).

ترجمة عن الإسبانية مارك جمال

المساهمون