لم تأكل الأسماك ذاكرتي بعد

07 مايو 2015
+ الخط -

بمهارة صائغ متمرس يمرر قلبي الكفيفُ أصابعَه على نتوءات خيالك فيرسمك كاملة التضاريس، ولن أقول بأنك أنثى، فكما لا يمكن اعتبار الشمس والوردة والستارة إناثاً كذلك المدينة، أعرف كم تحبين المدينة، وأذكر كيف ربيناها شارعاً شارعاً ورتبنا دروبها شجرة شجرة وأطلقنا فيها العصافير كما لو أنها رسل وديانات، أتلمسك الآن مثل أعمى يقرأ بجسده هواء من يمرون به ويرسم امرأة بحسب ذبذبات عطرها، ليراقصها في أنواره الداخلية فيما يراه المبصرون المفترضون يعيش عتمته الواسعة. كنت ابن عتمة كما تقول أساطير المدينة لأنني كنت أرى الألوان جميعا، وكنت أحزم ذاكرتي كما لو أنّ سفرا طويلا سيقتاتني وعليّ أن أجهز زوادتي من الحب، ذاكرتي الصغيرة التي أجاهد كي أبقيها محفوظة بعيدا عن الفيروسات التي تغزو الذواكر بهمجية المغول، وتخرش منظومة الفكر السوي ببراعة أغنية هابطة لأنثى تجيد التعري على مرأى الغرائز.

ذاكرتي الصغيرة التي أحفظها ملفوفة بطبقة من النايلون كما لو أنها أوراق ثبوتية لغريق محتمل يريد إثبات سوريته للمنقذين... ذاكرتي التي ربيتها مثلما ربى (شيركو به كس) إناء ألوانه، وتغنيت بالداخلين إليها كأنهم أناشيد (عيسى الشيخ حسن) المبللة بالحزن، وداريت شموعها كما لو أنني في عيد الشعانين. أخرجها اليوم على الملأ، أتلمس فيها مدينتي التي استمدت اسمها من نبات القاميش؛ الاسم التركي لنبات الزل، مدندناً كما في التراث الشعبي: "عود الزل الحوراني يا عويد الزلْ الطويلة ذبحتني وقليبي انْعَلْ". طويلة أنت في أرواحنا ونافرة ورطبة. كانت الحساسين تلاطف أطرافك فنخرج؛ ياسر الكردي وسنحريب المسيحي وأنا في رحلات صيد الحساسين، ننصب لها الشراك وننتظرها بأنفاس مقطوعة وعيون مترقبة، ولم تخطر الذئاب على بالنا، ربما علي أن أتساءل الآن: هل استيقظت فجأة فينا وصرنا نصطاد بعضنا فيما تبكينا الطيور التي توحدنا فيها ذات مصيدة عابرة. أُخرِجُ مما تزودت به من الذكريات دراجتي الهوائية التي لم تكن دليلا بحال من الأحوال على الترف الذي لم نكن نعرفه أصلاً، الدراجة لم تكن معدة للسباقات الطويلة على طريق الفرن الآلي ذي الشوارع الأربعة.

وأنا لم أكن مهيئاً كذلك لخوض المعارك الهوائية ذات العجلات، فكيف خطر لي أن أقبل التحدي، وأعود للبيت محملا بجراح في ركبتيّ و شقوق في البنطال والذاكرة، وبعض الدموع التي حاولت ألا يراها أبي. البكاء قال والدي: ليس عيبا، لا تنصت لأحاديثنا على الملأ، فكلنا نبكي في الليل. والرجال قالت أمي: أطفال "وإن صعدت (شواربهم) فوق السياج"، فلا تصدق كل بطولاتهم. والهواء تدندن جارتي: رسائل تأتي من صوب الأحبة، كنت أراقبها وهي تتهجاها كما لو أنها مكتوبة بطريقة بريل، وكما لو أن كل جسدها أصابع امرأة ضريرة، ولها أدين بتعلم رؤية ألوان الناس من أصواتهم، لتكون بعد ذلك مقولة: "تكلم كي أراك" حكمتي ودليلي في قراءة الناس، مازجا بينها وبين رؤية هندية ترى روح كل إنسان انعكاسا لحيوان ما، تكلم كي أراك أيها الأرنب وأيها الخلد وأنت أيتها الأفاعي. تكلم كي أراك أيها العصفور وأيتها الحمامة وأيها الصقر.

سألت مرة جدي الذي يحفظ خرائط التراب والماء: لماذا تنبت الأعشاب فوق القبور، قال: هي تخرج من أرواح الموتى لذلك ترى الورود وترى الأشواك، فالأرض يا بني مثلنا تعبر أيضا عما تخزنه من ذاكرة زوارها الأزليين. حزمت ذكرياتي وقطعت حدود البلاد، ولم أستطع أن أتركك هناك فحملتك وقلت سأغرسك في كل روح تجيد الهواء. أنظر الآن إليك وأنت تلتمعين أمامي عبر (google) وأضحك من صغرك وكثرة الوحوش التي تنتظر انطفاءك فينا. واثقا بأنك لن تكوني فراشة اللون الوحيد.

ـ نجوت من البحر ولم تأكل الأسماك ذاكرتي بعد.


(سورية)

المساهمون