لم أصرخ صرخة الولادة

26 فبراير 2017
+ الخط -
في المستشفى، استفاقت الفتيات الثلاث، كايا وهيلما وإياسا، على رائحة المطهّرات. لم يعرفن كم مرّ من الوقت. رحن يتبادلن نظرات غريبة آتية من العالم الآخر. لم يقلن كلمةً واحدة. بعد فترة طويلة من الصمت سألت إياسا: "لماذا؟ لماذا أردتِ الموت وأنتِ اللعوب الأكثر شبهاً بالحياة؟" و"لماذا أردتِ الموت وأنتِ تكرهين الأحلام الطويلة؟" ألحّت هيلما. "أنت لا تفهمين يا هيلما، يا إياسا. أنا متورطة في هذا النوع من القصص التي لا تنتهي إلا بموتي! أنا متورطة في حيوات كثيرة ولا أعرف من أنا! أتخيل من سيذكرني حين أذهب، أتخيل أحدهم يعود من الماضي ليبحث عني... هيلما أنا ميتة يا هيلما، تقول أمي إني حين ولدت لم أصرخ صرخة الولادة، وتعجّب الطبيب جداً، أتعرفين لماذا؟ لأنني وُلدت ميتة يا هيلما، لم ينتبه أحد لذلك لكنني عرفت بأنني فتحت عيني على الدنيا الخطأ. عرفت ذلك حين أخبروني أن أصمت، ولم يستشيروني في شيء، لقد تآمر الجميع عليّ وكنت أصمت وأطلق عليهم اللعنات بعينيّ، عرفت أنني ميتة فمارست الحياة بجنون. كنت ميتة أنتظر إعلان ذلك فقط".


منذ محاولة الانتحار تلك صارت الفتيات يجتمعن صامتات. يتبادلن النظرات والسكون العميق. يراقبن مرور الحياة على النباتات الجديدة والأطفال الذين يكبرون. يراقبن يد الوقت ولا يقلن كلمة واحدة. أحياناً يفكرن بإيما بوفاري في رواية فلوبير. بما قالته لزوجها شارل قبل أن تموت "ليتني أحببتكَ!"، كانت كايا الأكثر جموحاً تنظر إلى الحياة صارخةً من دون أن يخرج صوتها: "ليتني أحببتكِ!".

قرر الطبيب إبقاء كايا ليلتين تحت المراقبة في المستشفى، كان وجهه يشبه الفأر وعيناه لا تستقران على شيء. هزّت كايا رأسها حين كلّمها دون أن تقول شيئاً متسائلةً لماذا الستارة التي على مدخل الباب شفافة من الأعلى؟ قرب رجليها الممددتين تحت الغطاء الأبيض، جلست هيلما وإياسا على طرف السرير، رمقتها إياسا بنظرة شفقة وكره وتعاطف قبل أن تكمل ثرثرتها مع هيلما، اتفقت المرأتان على بقاء إياسا مع كايا تلك الليلة، على أن تبقى هيلما معها في الليلة التالية. كان انتظار التحاليل الغريبة والمتشابهة التي يقوم بها الأطباء كلما دخل مريض المستشفى مملّاً جداً لإياسا بينما غرقت صديقتها النائمة على سرير المرضى في نوم سحيق.

راحت أفكار السجن تضرب إياسا، جدران الغرفة تضيق وتضيق، ألم في الرجلين ودوار في الرأس، تساءلت لماذا قبلت البقاء مع كايا وهي تكره الانتظار والأماكن الضيقة؟ في تلك اللحظة دخلت ممرضة شقراء ملقية التحية وشارحةً، بلهجة أتوماتيكية، أنها ستسحب بعض الدم، هزّت إياسا رأسها موافقةً ثم أيقظت كايا.

حين ذهبت الممرضة وأصبحتا وحيديتين في الغرفة من جديد، أقفلت إياسا الباب ثم لم تستطع منع نفسها من توجيه السؤال إلى كايا: "لماذا لم تموتي؟ لماذا؟ لماذا"؟ نظرت كايا إليها بريبة، شعرت بالخوف، لكنها تمالكت نفسها: "ألستِ سعيدة بنجاتي؟" ابتسمت شبه ابتسامةً ثم أضافت: "لنكشف الأوراق يا إياسا، أعرف أنك تتمنين موتي، أليس هذا صحيحاً؟ تريدينني ميتة لأنني أذكّرك بحزنك وضجرك، أذكّرك بأن حياتك كانت لتكون مختلفة لو لم تسلكي طريق الاستسلام، أنا الضد، أنا نسختك المجنونة"، لم تتمالك إياسا نفسها، أرادت أن تبكي بصوت مرتفع، أرادت أن تصرخ، لكنها ابتلعت ريقها ثم مسحت دمعها ممسكة برأس كايا بين كفّيها: "أنا أشفق عليكِ أيتها الفتاة الصغيرة، أنا أحبك ولذلك أريدك أن تتركي هذا العالم السخيف، أنتِ يا كايا لا تعرفين كيف تستسلمين لدورك المرسوم، تريدين أن تصنعي صورتك الخاصة ولا تأبهين بأي شيء أو أي أحد. أنتِ سافلة وأنانية ولا تتعبين أبداً. لا تحلمين بالأمومة والقصص الزهرية تصيبك بالضجر. ماذا تريدين يا كايا؟ إلى أين تأخذينني أنا وهيلما في صداقتنا هذه؟ لماذا لا تنشرين سوى الخراب؟ لماذا لا تموتين؟"

كان صوت إياسا يعلو وتشنّجها يزيد وهي تردد "موتي! موتي!" ضاغطةً بيديها على جبين كايا من الجهتين، فيما وجه الفتاة الأخرى المستسلمة يفقد لونه من دون أن تبدي أية إشارة مقاومة.

مقطع من كتاب "عودة إيما"
دلالات
AEAC9A75-6C87-4B88-B3DC-6CF3DA62940A
زينب عساف

زينب عساف، شاعرة وكاتبة لبنانية تعيش في أميركا. أستاذة في قسم الدراسات الأوسطية في جامعة وين ستايت.