لماذا يدعو مروان البرغوثي إلى عصيان مدني؟

03 يونيو 2017
+ الخط -
في بداية إضراب ألف وثمانمائة أسير فلسطيني عن الطعام، دعا القائد الأسير مروان البرغوثي إلى عصيان مدني، وهو أمر لم تدع إليه لا السلطة الوطنية الفلسطينية، ولا منظمة التحرير، فأكثر ما استطاعت الاثنتان الدعوة إليه هو التضامن مع الأسرى. ومع أن الأسرى بحاجة ماسة إلى هذا التضامن، إلا أن إضرابهم عن الطعام لا يأتي دفاعا عن المصالح الإنسانية للأسرى فقط، بل لتعبئة شعبية داعمة للنشاط السياسي، قبل الزيارة التي قام بها الرئيس محمود عباس لواشنطن. فما هو سر هذه الدعوة؟
هل يسعى القائد الأسير مروان البرغوثي إلى أن يصبح القائد الفعلي للشعب الفلسطيني، مقلدا بذلك نيلسون مانديلا؟ هناك معقولية في هذا الطرح، وهذا حق له، فالزعامة الأصيلة يشرعنها الكفاح في غياب آلياتٍ أخرى أو تعطيلها. ولكن إجابةً من هذا القبيل تبقى سطحيةً ومعزولةً عن التاريخ الحافل للشعب الفلسطيني بالنضال والتضحيات. فكيف نفهم الدعوة إذن؟ وأكثر من ذلك، فإن الاعتبارات التكتيكية التي قد تكون موجودة، أو قد يراها بعضهم، في ظرفها الراهن، حيث ذهبت القيادة الفلسطينية إلى واشنطن، وهي خاوية الوفاض من أسلحة الضغط السياسي عمليا، قد تجد في إضراب الأسرى عن الطعام مؤشرا لما قد يتفاعل من حراكٍ شعبيٍّ يتطلب تجنبه تحقيق تقدم في عملية السلام من خلال طاولة المفاوضات. إذ إن ما يعتقده بعضهم أن ضغوط السلطة الوطنية الفلسطينية على حركة حماس، ووضع محاربة الإرهاب في قاموس السياسة الفلسطينية ستكون مهمةً في استراتيجية استمالة البيت الأبيض وساسته لمصلحة القضية الفلسطينية، هو مجرد اعتقاد واهم. فحقيقةً لا يوجد للإرهاب مكان في أجندة الكفاح الوطني الفلسطيني، فالكفاح في سبيل الاستقلال وتقرير المصير حق مكفول في الشرائع الدولية، ومن يريد تصوير هذا الكفاح أو ربطه بالإرهاب يكون مخطئا، إن لم تكن مقاصده تدمير هذا الكفاح ونزع الشرعية عنه، في سبيل تصفية القضية الفلسطينية، بعيدا عن المصالح والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وأبعد من ذلك، من يتصور أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سيحقق اختراقا لم يستطع
تحقيقه ممن سبقه من الرؤساء الأميركيين يكون مخطئا، فقد كان ترامب واضحا في توجهه إلى وضع سياسة جديدة للولايات المتحدة في المنطقة، إذ إنه ليس متمسكا بحل الدولتين، أو بحل الدولة الواحدة، فالأمر متروك للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للاتفاق بشأنه، وسيؤيد ما يتفقان عليه. وبالطبع، لا يعني هذا الأمر سوى أمر واحد في سياق تاريخ المنطقة وواقعها الحالي: لن يتفق الطرفان. فالقيادة الفلسطينية ليست مستعدةً للتخلي عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وليس في مقدورها ذلك. بينما يجد الطرف الإسرائيلي نفسه في أكثر أوقاته راحة، فليس من قوىً عربية أو إقليمية تقف في وجه مطامعه وسياساته، ولدى إسرائيل حليف استراتيجي تستطيع الركون إليه، فهو لن يعارضها، ويساعدها في محاربة ما تخافه من سلاح المقاطعة، وسحب الاستثمارات، والتنديد بأعمال طعن الجنود والمستوطنين، وتهديد السلطة الوطنية الفلسطينية بالوسائل المالية، كلما لزم الأمر للجمها عن مجرد التفكير فيما هو غير مقبول لإسرائيل أو للبيت الأبيض. وحتى لو أرسلت السلطة الفلسطينية كتائب للحرب ضد "داعش" لما حصلت على مكافأة أميركية ذات مغزى.
ولذلك، دعونا نعود إلى التاريخ، لنفهم دعوة مروان البرغوثي. لقد انخرط في الكفاح الشعبي الفلسطيني غير النخبوي، والمستند إلى قاعدة واسعة من الجماهير. فهذه الجماهير أنجحت في العام 1976 الكتل الوطنية في انتخابات البلديات، وحملت إليها قادة جماهيريين وطنيين، يؤمنون بهذا النوع من الكفاح، وخاضوا إلى جانب خدماتهم البلدية كفاحا وطنيا مهما أسقط محاولات إسرائيل لتطبيق اتفاقيات كامب ديفيد التي تتجاهل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وتبقي على الاحتلال الإسرائيلي الكولونيالي ومستوطناته. وقد حاولت إسرائيل اغتيال هذا الكفاح الشعبي بمحاولات اغتيال منظمات استيطانية، تختبئ وراء الجيش وتلقى دعمه، رؤساء البلديات، بينما استمر الكفاح الوطني في صعود، انقطع مدة وجيزة وعانى من أزمةٍ سببتها صدمة الحرب الإسرائيلية على لبنان وحصار بيروت وخروج المقاومة إلى تونس، غير أن ناره ظلت مستعرة إلى أن هبت رياحها الشديدة في انتفاضة عام 1987، والتي استمرت مؤكدة على انتقال مركز العمل الوطني والشعبي إلى داخل المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد حملت هذه الانتفاضة قيادة الشعب الفلسطيني بمباركة من منظمة التحرير إلى مؤتمر مدريد للسلام. وفي الأثناء، استمر البحث الإسرائيلي عن طريق لاغتيال هذا الكفاح.
وكانت مفاوضات أوسلو وما نجم عنها من اتفاقيات الآلية التي تمأسس من خلالها نظام جديد، تقع السلطة الوطنية الفلسطينية في مركزه، مدعومةً بأموال المانحين الدوليين والدول المانحة، في مجرىً يتطور، وفق بعض مخططيه، إلى نزع الطابع الشعبي للكفاح الفلسطيني، ويحوله إلى كفاحٍ في سبيل الخدمات العامة، وإن فشل هذا الأمر (أي إن لم يتم تقديم خدمات عامة كافية وذات نوعية) فسيلقى باللائمة على السلطة الفلسطينية تحت طائلة الاتهام بالفساد وعدم الكفاءة الإدارية. وفي الأثناء، ولأن هذا الاتفاق لم يكن كاملا incomplete contract، فمن الطبيعي أن يحوز الطرف الأقوى على المكاسب من تطبيق مثل هذا الاتفاق. وهذا ما حصل. وعندما توصل الشهيد القائد ياسر عرفات إلى هذا الاستنتاج، وحاول اللجوء إلى الكفاح الشعبي، مستندا إلى الجماهير العريضة، تم حصاره واغتياله. وأعاد الجيش الإسرائيلي احتلال المناطق الفلسطينية الخاضعة للسلطة الفلسطينية لإعطاء القيادة الإسرائيلية الفرصة لإعادة ترتيب الأوضاع بالطريقة التي تناسبها وتناسب مخططاتها الاستيطانية والكولونيالية.
وفي هذا السياق نفسه، يمكن فهم القوة المفرطة التي استعملتها إسرائيل بحق حركة حماس بشكل خاص، وقطاع غزة بشكل عام، لضرب الاستناد إلى الكفاح الشعبي، ومحاولات تعزيزه بالقوة العسكرية للجناح العسكري لحركة حماس، وهو أمر يختلف، إلى حد ما، عن محاولات عسكرة الانتفاضة التي تمت في الضفة الغربية بشكل خاص، نظرا لانسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، وتمكن "حماس" من الاستحواذ على أسلحةٍ لم يكن ممكنا امتلاكها في الضفة الغربية.
وحقيقةً، ما يزعج إسرائيل ويضعها في موقف العاجز هو الكفاح الشعبي الموحد، والعصيان
المدني مرحلةً متقدمةً من هذا الكفاح، ويتطلب، في الحقيقة، استعدادا وتجهيزا وتعبئة للإمكانات والموارد وإبداع العقل في ابتكار ما من شأنه إرباك إسرائيل، ويجعل من قدرتها العسكرية عبئا عليها، بدلا من أن توفر لها التفوق المنشود. أو ليست هذه قصة ديفيد اليهودي راعي الغنم الصغير في هزيمة جولياث الفلستي العملاق المدجج بالسلاح بمقلاعة حجرية؟ أكثر ما تخشاه إسرائيل أن يأخذها الفلسطينيون إلى حيث لا تهوى وتشتهي. ففي المعركة العسكرية قد تنتصر إسرائيل، لكنها، أمام الكفاح الشعبي، بأشكاله المتعددة والمستند إلى مشاركة واسعة، ستخسر وستفقد المكونات القيمية والحضارية والمادية لوجودها. ولقد آن الأوان ليعيد الفلسطينيون النظر في تفكيرهم واستراتيجيتهم الكفاحية، كما أنه آن الأوان لإعادة اكتشاف الذات الفلسطينية، وابتكار أدوات الكفاح التي تحمي مستقبل الشعب ومصيره من البريق الزائف لمكاسب اللحظة الراهنة. ومن يتصوّر كفاحا بلا عذاب واهم. ومن يتصوّر قيادة غير مكافحة، لا يفهم ما تعنيه التعبئة والحشد بالمثل الأعلى قيميا وحضاريا وصبرا وإنسانية.
هذه هي حقيقة دعوة مروان البرغوثي إلى العصيان المدني، وهذا هو السبب وراء محاولات خنق صوته وعزله عن قيادة إضراب المضربين عن الطعام. وحقيقة، هذه المعركة الصغيرة للأسرى المضربين هي حراك يخشى الاحتلال الإسرائيلي الكولونيالي وقادته من أن يصبح مثل النار في الهشيم.
877CCC4E-1A13-42CE-BF6A-C0BF92DEF7E0
877CCC4E-1A13-42CE-BF6A-C0BF92DEF7E0
عادل زاغة

أكاديمي وباحث فلسطيني، دكتوراه في النظرية الاقتصادية والمالية العامة من جامعة برلين الحرة. عميد كلية التجارة والاقتصاد في جامعة بير زيت. أستاذ زائر في معهد الدوحة للدراسات العليا. تشمل اهتماماته البحثية قضايا الاقتصاد السياسي العالمي، واللامركزية المالية، والنظام الضريبي.

عادل زاغة