بعد تحديد موعد ومكان القمة الأميركية – الكورية الشمالية في 12 يونيو/حزيران بسنغافورة، وبحكم التزامن بين قرارين أميركيين متناقضين لمعالجة موضوعين متشابهين بعض الشيء، يطرح السؤال نفسه: لماذا اعتمد الرئيس دونالد ترامب الحوار لتسوية أزمة السلاح النووي الكوري وفي ذات الوقت نسف الجسور أمام أي احتمال من هذا النوع لمعالجة النووي الإيراني؟ مع أن كوريا تملك هذا السلاح ووسائل توصيله إلى أهدافه في حين لا تملكه طهران حتى الآن، وهي مرتبطة باتفاق يجمّد مشروعها لعدة سنوات.
قد يبدو السؤال أكاديمياً، لكن ثمة من يطرحه وله ما يبرره، فالقواسم بين الملفين تزيد عن الفوارق رغم التباينات في ظروفهما: كلاهما نووي. وكلا البلدين خصم مزمن لواشنطن. وعلاقات هذه الأخيرة مقطوعة مع الاثنين منذ عقود ولا يربطها بهما غير التوتر ولغة التهديد والحرب. وقد فرضت عليهما من العقوبات ما لم تفرضه على طرف دولي آخر. كما أن أميركا تتهم الدولتين بالإرهاب، وتضعهما في مقدمة لائحتها للدول التي تنتهك حقوق الإنسان. واستصدرت عدة قرارات إدانة من مجلس الأمن ضدهما. مع ذلك بدا تعاملها معهما على طرفي نقيض.
بعد انقلاب الرئيس كيم جونغ أون المفاجئ، وفتحه لباب الحوار مع إبداء مرونة غير معهودة واستعداد للبحث بخيار التخلي عن السلاح النووي وإزالته من شبه الجزيرة الكورية، سارع ترامب إلى مبادلة نظيره الكوري بالمثل وأفضل. نغمة بدت للكثيرين في واشنطن غير قابلة للتصديق. بين ليلة وضحاها قلب الرئيس الصفحة ليصبح كيم جونغ أون، "الرجل الصاروخي الصغير" كما لقّبه، "الرجل الشريف". وبعد أن قال فيه ما لم يقله مالك في الخمر وهدّد بمسح دولته "المارقة" عن وجه البسيطة، صار بإمكانه التعامل معه وتوقّع نتائج واعدة من القمة، كما أوحى في تعقيباته الأخيرة. ويبدو أن توقعاته في مكانها.
يشير إلى ذلك، التغيير الحاد في لهجة ومضمون خطاب الطرفين، وتعززه بعض المقدمات وآخرها زيارتا الوزير مايك بومبيو إلى كوريا الشمالية في أقل من شهر، ثم إطلاق هذه الأخيرة سراح ثلاثة أميركيين كانوا محتجزين لديها، عادوا صباح أمس من بيونغ يانغ مع بومبيو. وكأن القمة جرى الإعداد لها لتخرج بصيغة يجري وضعها في خانة الإنجاز. مع أن مطلب تنظيف كوريا من السلاح النووي لن يتحقق، على فرض إمكانية ترجمته إلى واقع على الأرض، إلا بالتقسيط وليس على الطريقة الليبية؛ حسب إجماع المرجعيات في الموضوع.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا اختار البيت الأبيض إسقاط الاتفاق مع إيران المبني على مثل هذا النهج التدريجي للخلاص من السلاح النووي الذي لا تحوزه طهران بعد في كل حال؟ خاصة وأن الاعتراض المشروع على دور طهران في المنطقة وعلى مشروعها الصاروخي كان يمكن التعاطي معه بمفاوضات جانبية ملحقة، حسب ما عرضه الجانب الأوروبي.
منذ الإعلان عن قرار انسحاب أميركا من الاتفاق النووي قبل يومين والردود تتوالى مع كثير من الدهشة والاستغراب. لكن الإدارة لم تقوَ على تقديم تعليل يفسر التناقض الصارخ في سياستها النووية الخارجية. ثمة من يعزو موضوع النووي الإيراني إلى إصرار ترامب على"محو" إرث باراك أوباما.
ويرى آخرون أنه أقدم على الخطوة لأنه لا يطيق الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ويعتمد "مذهب الطلاق" في التعاطي معها. وفريق ثالث يربط الأمر بتفاقم مشاكل ترامب القانونية وحاجته إلى التغطية عليها بأزمات خارجية. لكن الغالبية تشير إلى بصمات رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو والمحافظين الجدد الذين تسللوا مؤخراً إلى مواقع القرار في الإدارة. هذا الثنائي يستعجل المواجهة في الشرق الأوسط وبما اقتضى تبريد النووي الكوري ووضعه في سياق يوحي بحل مرحلي، لتسخين النووي الإيراني من خلال استدراج المتشددين في طهران إلى الرد بصورة تشكل المدخل لتطورات لا يخفي كثيرون في واشنطن قلقهم من ذيولها. وما جرى على المسرح السوري ليلة أمس جاء ليؤكد المخاوف. واللعبة ما زالت في بداياتها.