لماذا ذهبتم؟

08 يناير 2015
أصواتكم لم تغب، وأهازيجكم لم تهدأ
+ الخط -

نسألكم لماذا ذهبتم؟ ونسأل ذواتنا السؤال ذاته، وهو أيضا ما تسألنا إياه ضمائرنا، وما يتوقف لديه وأمامه تاريخ لحظتنا العربية. للرحيل معان وتمثيلات عدة، وللغياب تأويلات كثيرة، ولكن لذهابكم أنتم، ولا نقول رحيلكم أو غيابكم، فالرحيل سمة المغادرين، والغياب خاصية تقترب من المستنكفين، أما أنتم فليس لديكم من هذه أو تلك، بل إن حضوركم الطاغي فى قلوب أحبتكم الذين عرفوكم نجوما يسترشدون ويستشهدون بهديها قائمٌ في الشوارع التي انطلقتم منها أو أغلقتموها في وجه بساطير العسكر وأدوات قمعه ومخابراته الدنيئة. والميادين التي عمرت بأصواتكم وضحكاتكم، ووجوهكم الباسمة، ما زالت تحفظ لكم العهد وتنتظر من حمل رايتكم ليمضي بها إلى الأمام.

كثرت صوركم التي انتشرت، وأسماؤكم التي كتبت ورسمت على جدران بيوتنا ومتاجرنا وأسواقنا ومدارسنا، وكثرت الأمكنة التي حاول من خطف النبض من قلوبكم، سواء برصاصة أو برميل، أن يمنع ذكركم فيها ومنها، لكن أصواتكم لم تغب، وأهازيجكم لم تهدأ، وصرخاتكم في وجه الاستبداد وغياب العدالة لم تتوقف، فأنتم كذلك الشيء الجميل الذي نعجز عن تسميته أو إطلاق النعوت والألقاب والصفات عليه، لكننا نعرف كم هو جميل، وكم أنه ضروري لرحلة الحرية التي نشدتموها وننشدها، لذلك أسميناكم شهداءنا، أو شهداء ربيعنا.

ليس من المستجد على الواقع العربي في ثقافة الاستشهاد أو بذل النفس لأجل المجموع والحلم شيء، ولطالما عرف الشباب العربي درب هذا الشكل من التماهي مع حالة العطاء، فكانت فلسطين، وما أكثر الذين قدموا أجسادهم على أرضها ولأجلها، وما تزال أرواحهم حاضرة لدى من لم يضل عن تلك البوصلة العنيدة التي تقول، الحرية والكرامة قبل أي شيء، وضرورة لأي شيء. كما أنه ليس من المستهجن، بل اختبر الشباب العربي طويلا، ثقافة بذل الذات، فكان أن أقدم على الاطلاع بمهماته التحريرية والتغييرية منذ عهد تفكيك الاستعمار بشكله المادي المباشر، وفي وجه دولة العسكر في غير قُطر عربي، وعلى هذا الدرب ناله ما ناله، وما نعرفه وما لم نسمع عنه بعد، من تقتيل واعتقال وإخفاء ونفي، فكان للحظات المقاومة، والمراحل المؤسسة من النضال الطويل في وجه أنظمة العسكر أثمان باهظة، لم يتوانَ الشباب العربي عن سدادها، وإن كان من دمه، ولحمه العاري الذي شهد له بالتصدي بكل ما تتطلبه معاني بذل الأثمان لأجل الغايات النبيلة، إلى أن جاءت اللحظة التي طال انتظارها، وكثر الحديث عنها، ولم يتوقف الحلم عن الدوران حولها ولأجلها، وكذلك الأجساد والحناجر والرايات حرة، ولم يفاجئ شباب الثورات العربية بما لاقاه من تعنت وصلف سلطويين يتم استحضارهما من عصور قمع بادت في أغلب بقاع الكوكب الذي نعيش عليه، وتخطه كثير من شعوب الأرض وأنظمتها لصالح ما هو أكثر إنسانية، وأقرب مما يستحقه الإنسان، أقله أن يكون مواطنا متساويا مع مواطنيه، وأن يكون ممتلكا للحق في الحلم وترجمته أليات واقعية تهدف إلى التغيير وترمي إليه.

أما وبعد أن تمر أربع سنوات، ونجد أولئك الذين اختاروا الذهاب واختبروه في تالة والقصرين وغيرهما من مناطق الأرض التونسية المحببة، ما زالوا بحضورهم بيننا، ولم تنطفئ سيرتهم ولا ذكراهم، ولم يختر من حملوا نعوشهم دربا مغايرا، بل استبقوا الكرامة والمواطنة والعدالة مطلبا أزليا لا يحيدون عنه، فهذا يقول لنا، بل ويؤكد بتشديد لا مفر منه، أن الذهاب كان خيارا لأجلنا، ولأجل حلمنا جميعا، وأن الوفاء لتحقيق دوافع هذا الخيار هو المطلوب منا، فلا طعم لتضحية تقابل بالنكران، ولا دفء يشع من نار تقابل بالدفن، ولا حلم يبقى عندما لا يجد إلا الاستخفاف، هم اختاروا أن يكونوا وقود مراكب الحرية التي تقلنا، وعلينا أن نختار حسن قيادة المراكب وتثبيت الأشرعة والإبقاء على البوصلة التي حملناها معا منذ أول الرحلة.

لشهداء تالة والقصرين الذكرى الطيبة وتحقيق الحلم، ومنا البقاء على ما اطلعنا به واجب ومسؤولية معهم.


راسلونا على: Jeel@alaraby.co.uk

المساهمون