لماذا تراجع الإسلام السياسي في تونس؟

09 نوفمبر 2014

تونسيون يشيعون جثمان عسكري من ضحايا الإرهاب(6 نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

باحت صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية بتونس بأسرارها، وكشفت عن مشهدٍ سياسي جديد، تصدر معه حزب نداء تونس الطليعة، بفوزه بـ85 مقعداً من مجموع مقاعد مجلس نواب الشعب (217)، تلته حركة النهضة، ذات النزعة الإسلامية، وقد تراجعت نسبيّاً، وحصلت على27% من أصوات الناخبين، وتقلص عدد ممثليها في البرلمان، من 89 نائباً في المجلس التأسيسي (23 أكتوبر/تشرين الأول 2011) إلى 69 في مجلس النواب الشعب (26 أكتوبر/تشرين الأول 2014)، وتقدم عليها نداء تونس بـ 16 مقعداً.

وأسهمت عدة معطيات في تراجع الإسلاميين في تونس، لعل أهمها أنهم أدركوا الحكم في غفلة من الزمن، فبعد سنوات القمع، وجدوا أنفسهم فجأة في سدة الحكم سنة 2011، بعد أن منحهم الشعب ثقته، فتحمّلوا مسؤولية إدارة الدولة، لأول مرة في تاريخ تونس، ولم تكن لهم سابقة في هذا الشأن، فأثر نقص الخبرة على أدائهم الحكومي، في فترة انتقالية حرجة، تميزت بتزايد الاحتجاجات المطلبية، والأعمال الإرهابية، والضغوط النقابية، والتحديات الاقتصادية.

وعلى الرغم من أن "النهضة" أسست أول تجربة في الحكم التشاركي، الديمقراطي بين إسلاميين وعلمانيين بتحالفها مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي، من أجل العمل والحريات، فإن هذا التحالف غلبت عليه المحاصصة الحزبية، ولم يتمكن من تحويل نجاحه الانتخابي إلى نجاح تنموي، واستقرار أمني، ورخاء اقتصادي. فقد حكمت الترويكا البلاد، في فترة حمادي الجبالي، خصوصاً، بأيد مرتعشة، لغياب استراتيجية واضحة في مستوى إدارة الشأن العام، وفي مستوى الاستجابة لانتظارات الناخبين، وجموع المواطنين. ولم يشفع للترويكا رصيدها النضالي في هذا الإطار، فقد انتخبها الناس لتحقيق مطالب الثورة "شغل، حرية، كرامة وطنية"، ولا شك في أن النهضة ضمنت الحريات، ولم تتدخل في السلوك الفردي للمواطنين، ولم تعطل النشاط الحزبي لمنافسيها، وقبلت بالدخول في تجربة الحوار الوطني، وساعدت التونسيين في بلورة أول دستور عربي، ديمقراطي، توافقي، يضمن حرية الضمير والمساواة بين المرأة والرجل، والحق في التعبير، والتفكير، والاختلاف، والتنظم. وقدمت درساً في التنازل السلمي عن السلطة. لكن، لا يمنع ذلك من أنها لم توفق في إيجاد حلول إجرائية، للحد من ارتفاع الأسعار، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن، وانتشار التجارة الموازية، وتزايد عدد العاطلين من العمل (15%). يضاف إلى ذلك أن حركة النهضة فشلت في سياسة مد اليد إلى السلفيين الذين انفضّوا من حولها، بعد رفضها التنصيص على الشريعة في الدستور الجديد، وانصرف بعضهم إلى المشاركة في أعمال عنف، واستعراض قوةٍ هزت السلم الاجتماعي، وهددت بنسف المسار الانتقالي، خصوصاً بعد اغتيال المعارضين، شكري بلعيد ومحمد البراهمي. واستغلت النخب العلمانية تلك الحوادث لتخويف الناس من الإسلاميين، واتهامهم بأنهم خطر على المجتمع، وعلى مسيرة التحديث التي شهدها من زمن بعيد.

وفي مستوى آخر، لم تستجب حركة النهضة إلى آمال الشباب الثائر في إنصاف المظلومين ومحاكمة المستبدين وأعوانهم، وتفعيل العدالة الانتقالية، بل بدت ميالة إلى تقديم المصالحة على المحاسبة، فتخلت عن مشروع تحصين الثورة، وعارضت العزل السياسي، ورفضت مقترح النص على السن القصوى للمتقدم إلى منصب الرئاسة، وغلب على اتخاذ تلك القرارات الطابع" المشيخي"، لا المؤسساتي، ولم تستشر الحركة قواعدها في ذلك الخصوص، وغلب عليها الخوف من نقل السيناريو المصري إلى تونس، فانخرطت في التنازلات، والبحث عن التوافق بأي ثمن، وأدى ذلك إلى نتيجتين، إحساس معظم الشباب الثائر بالإحباط، وعزوفه عن المشاركة في الانتخابات، أو انضمامه إلى أحزاب صغيرة تحمل لواء الوفاء للثورة، مثل البناء وحركة وفاء والتيار الديمقراطي.. ما أسهم في التفريغ الذاتي لحركة النهضة، وتقلص مؤيديها. وتمثلت النتيجة الثانية في عودة رموز العهد القديم، فاستيقظت شبكات التجمع الدستوري النائمة، واستجمعت قواها، وانتظمت من جديد ضمن نداء تونس، وأحزاب دستورية أخرى، وظن بعضهم أن تعدد تلك الأحزاب سيؤدي إلى تشتيت أصواتها، وأن الشعب سيقصيها بالصندوق.. لكن الواقع كان خلاف ذلك، إذ اتفق الدساترة ويساريون على اعتماد آلية التصويت المفيد لإطاحة حركة النهضة، فصوتوا بشكل جماعي لصالح نداء تونس، فحاز أكبر نسبة من المقاعد. وفي المقابل، دخلت الحركة الاستحقاق الانتخابي وحيدة، وقد غلبت عليها البيروقراطية الإدارية، وهاجس الاعتداد بالذات، وابتعد عنها عدد مهمّ من الشباب، والسلفيين، والثوريين، واعتمدت، في الحملة الانتخابية، آلية التحشيد والاستعراض الجماهيري، فزادت من خوف خصومها الذين استعدوا لها، خشية أن تهيمن على المشهد السياسي في البلاد. واعتمد ناخبون آخرون آلية التصويت العقابي ضدّ الترويكا عموماً، والنهضة خصوصاً، بدعوى أنّها لم تحقق كل ما وعدت به في برنامجها الانتخابي (سنة 2011).

كانت هذه المعطيات مجتمعة فعالة في تأمين تراجع حركة النهضة في الاستحقاق الانتخابي، كما أن انحياز الطرف النقابي في أكثر من مناسبة إلى المعارضة، وإعلانه إضراباً عاما ثلاث مرات في فترة حكم الترويكا، فضلاً عن آلاف الاعتصامات والاحتجاجات. ذلك كله، إلى جانب دخول الناس الانتخابات تحت وطأة الخوف من الإرهاب، والتلبيس عليهم بأن "النهضة" مسؤولة عنه، أدى إلى هروب الناس نحو "نداء تونس" طمعاً في شيء من الأمان، والرفاه، والاستقرار. ولعب الإعلام دوراً مركزياً في توجيه الناخبين، والتأثير عليهم، فعانت "النهضة" والفريق الحاكم معها قصفاً إعلامياً يومياً، كان يعمد إلى شيطنتها، واعتبار هدفها الأساسي أسلمة المجتمع، على الرغم مما بعثت به الحركة من رسائل طمأنة للمجتمع المدني، ومشاركتها في صوغ الدستور، وإيمانها بالديمقراطية. وفي المقابل، لم تنتج النهضة إعلاماً بديلاً على درجة عالية من الحرفية، وكان حضور بعض ممثليها في وسائل الإعلام باهتاً أو غير مدروس، ما أثر سلباً على شعبيتها.

وعلى الرغم من ذلك، تبقى حركة النهضة رقماً مهماً في المشهد الحزبي في تونس اليوم، ونموذجاً مميزاً من نماذج الإسلام السياسي في المنطقة، وضامناً للتوازن داخل الساحة السياسية.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.