لكي تظل في ضلالاتك اللذيذة

27 سبتمبر 2018
+ الخط -
مثل كل شيء آخر في هذه الحياة الدنيا، يتغير إحساسك بالحب، فيصبح مع مرور الوقت وتعاقب التجارب أعمق وأصدق، أو فلنقل أكثر واقعية.

وأنت صغير، غالباً ما تُفرِّق بين البنت التي تحبها والبنت التي تشتهيها.. البنت التي تحبها، ترى كل ما فيها جميل، حتى لو كان عيباً، ترى دائماً حول وجهها هالة نور، تجعلها أشبه بهالة فؤاد في أيام عزها، البنت التي تشتهيها تكون أشبه بهالة صدقي في أيام عزها أيضاً، ينتقل مصدر الإضاءة من حوالي وجهها إلى حوالي صدرها أو عجيزتها، أو كليهما، يعني لا أريد أن أغرق في التفاصيل هنا لكي لا أخدش رقي موضوع كهذا يفترض أن يكون الحديث فيه مرهفاً وحالماً.

في البدء تبدو كل قصص الحب لك حقيقية جداً، مهما رآها من حولك وهمية، ومهما كانت منقوعة في الهراء المتماسك، لكنك مع عوامل التعرية الطبيعية التي لا ينجو من سطوتها أحد، تتمكن من فرز درجات الأوهام التي عشتها طيلة عمرك، فتكتشف أنك أحياناً عشت قصص حب لا ترقى حتى إلى أن تكون وهماً، لأن للوهم في نهاية المطاف كيان وأبعاد ومواصفات قياسية تجعل منه وهماً.

أول حب توهمته حقيقياً، كان لزميلة لي في الجامعة، لم أكن أحبها فقط لأنها جميلة جداً، فقد كان في دفعتنا من هنّ أجمل منها، لو طبقنا معايير النقد المقارن في الجمال، كنت أحبها لأن في عينيها الجميلتين حزناً غير عادي، وإذا سألتني لماذا أصفه بأنه حزن غير عادي، لن تجد إجابة مقنعة، لأنني لم أكن أعرف وقتها ولا أعرف الآن، ما هو الفرق بين الحزن العادي والحزن غير العادي، لا أعرف سوى أن تعبير "الحزن غير العادي" يمتلك جاذبية خاصة، ولذلك لا مجال لتأمله ولا تحليله.

كان أول ما لفت انتباهي إلى تلك الحزينة، أن "شفايفها كانت مقشّرة على طول"، ربما لأنها لم تكن كغيرها تضع أي ماكياج على وجهها، ليس تزمتاً أو ورعاً، بل لأنها في الحقيقة لم تكن تحتاج إليه، لكنها كان يمكن مع ذلك أن تضع بعض "زبدة الكاكاو" على شفتيها لحل مشكلة الشفاه المتقشرة إلى حد مثير للقلق، لكنها لم تكن تفعل. ولأن المحب من طرف واحد يقضي وقتاً أطول من اللازم في تخيل ظروف حبيبته وأحوالها، كما يقضي المشتهي وقتاً أطول من اللازم في تخيل من يشتهيها دون أن يهتم بظروفها وأحوالها، فقط ظللت أفكر طويلاً في الأسباب التي تدفع حبيبتي إلى المجيئ إلى الكلية بشفاه واضحة التقشير بشكل ملفت، مع أن بمقدورها معالجة تلك المشكلة، لأتصور بعد أن غُلُب حمار أفكاري، أنها تريد إيصال رسائل إلى من حولها، لكي يسألوها عن ظروفها وأحوالها، وكانت مشكلتي أنني لم أمتلك الجرأة الكافية لأستجيب لتلك الرسالة، التي اشتغلت كثيراً على الرد عليها، لكني لم أنقل ردي من مرحلة التحضير والتفكير إلى مرحلة الإعلان والمصارحة.

لم يكن غريباً في ظل حالة كهذه أن أنهار في البكاء ليلة بأكملها، بل قل عدة ليالي، حين كنا نمشي سوياً بجوار قبة الجامعة، وحدث ما أخّرني عن السير إلى جوارها للحظات، فرأيت جوربها ـ "البيج" فكيف أنسى لونه أبداً ـ وقد تهدل على حذائها، بعد أن انقطع "الأستك" الذي كان يربطه، لأعتبر ذلك رسالة أخرى تؤكد أنها تعاني من فقر مدقع يمنعها من شراء جوارب غالية محكمة "الأساتك"، لتكتسب تصوراتي تلك صفة اليقين، حين اكتشفت بالصدفة عن طريق زميلة لنا تعرفها من أيام الثانوية، أن حبيبتي الغامضة لم تكن تسكن في ذلك الحي الشعبي العريق الذي ينتهي عنده خط (الميني باص) الذي كنت أوصلها إلى محطته كل يوم، بل كانت تأخذ بعد النزول في آخره ميكروباصاً يوصلها إلى منزلها الكائن في منطقة عشوائية تجاور المقابر، وهو اكتشاف زادني محبة لها وانشغالاً بها، فإلى جوار أحلام اليقظة التي كنت أنتشلها فيها من الفقر المدقع بعد أن أسبقها إلى الغنى الفاحش، أصبحت أراها في أحلام مفزعة متكررة، وهي تعاني من أشنع الظروف وأقساها، ولأنني لم أكن قد حللت بشكل قاطع لغز الشفاه المقشّرة، فقد رأيت في أحد أحلامي تفسيراً منطقياً له، حين رأيتها مع والدها الذي تصورته قاسياً غليظ القلب، منذ أن قالت لنا مرة أن والدها يعمل "ضابط مِخلة" في الجيش، ولأنني خجلت أن أسألها عن ملابسات وتفاصيل تلك المهنة، فقد رأيت والدها في الحلم مرتدياً بدلة عسكرية، وحاملاً على كتفه "مِخلاة" ضخمة الحجم، ينقض عليها وهي تأكل عشاءها، فيأخذها من على ترابيزة السفرة، ليضعها في المِخلاة لكي يمنعها من الأكل، فتظل في المخلاة تعضعض على شفايفها من فرط الجوع، ولذلك وحده تأتي الجامعة بتلك الشفاه الجميلة الدامية.

وحين اقتربت منها أكثر في جلسات الإعداد للأبحاث الجامعية المشتركة، وعرفتها في عدة مواقف، اتضح لي أن ما كان في عيني حبيبتي ليس حزناً غير عادي بل عبطاً عادياً، عبطاً بيِّناً كان يتجلى طيلة الوقت في آراء شديدة التفاهة والغرابة، رآه البعض سكة تسوق فيها الهبل على الشيطنة، بينما رأيته هبلاً صافياً لا شبهة للشيطنة فيه، واتضح لي بعدها من خلال مراقبتها اللصيقة، أنها كانت تقشر شفتيها باستمرار، لأن لديها قدراً زائداً من التوتر تخرجه في شفتيها، بعد أن تجاوزت قبل سنوات قليلة مرحلة عض الأصابع، وحين تحايلت ذات مرة لسؤالها ما إذا كان لديها اصبع زبدة كاكاو لأضعه على شفتي التي قمت بعضها حتى نزفت متعمداً، فقالت لي أنها لا تستعمله أبداً، وأنها تفضل ترك شفتيهما كما هما، لأنها لا تثق في منتجات التجميل التجارية، حتى وإن كانت تباع في أفخر المحلات، وهي إجابة لم تقنعني، فاستبدلتها بإجابة رأيتها في الأحلام، بطلها بلطجي في منطقتها العشوائية يعتنق أفكاراً سلفية، تجعله يفرض على بنات منطقته كوداً متشدداً في اللبس والماكياج، يتعامل مع أي تزيين للشفاه بوصفه دليلاً على انحراف مبكر لا يرضاه لأخت حِتّته.

...

لم تنقص تلك الاكتشافات المحورية المختلطة بأوهام الأحلام، من درجة حبي الجارف لها، بل زادته، ولأن العبط يُعدي، فقد أصبحت بفضله أوقن أنني ربما كنت مبعوث العناية الإلهية إلى حبيبتي لحمايتها من نفسها، وهو ما عبرت عنه ليس في قصيدة واحدة أو قصيدتين، بل في ديوان شعر كامل، كان مجرد محاولات مخلصة لتقليد محمود حسن إسماعيل ومحمود درويش في مرحلته الأولى، مرحلة "حبنا أن يضغط الكف على الكف ونمشي.. وإذا جُعنا تقاسمنا الرغيف"، وهي المرحلة التي فارقها محمود درويش من زمان، لكنها لا زالت تستهوي كل المحبين المبتدئين، حتى يكتشفوا إما قبل الزواج أو بعده، أن فكرة تقاسم الرغيف لن تكون جذابة، خصوصاً مع من تعودوا على أكل ثلاثة أرغفة "في الطقّة".

لم يكن استقبال حبيبتي لقصائدي فاتراً كما كنت أخشى، فقد فاجأتني أنها أيضاً تقرض الشعر، ومع أن ما كانت تكتبه أقرب إلى الخواطر التي لا علاقة لها بالوزن والقافية ولا المعنى، فقد كان سبباً في أن تتطور علاقتي بشعر النثر الذي لم أكن أفهمه ولا أطيقه في البداية، لكنني بدأت أتقبله لأنه يشبه ما تكتبه حبيبتي، في حين ظللت أنا وفياً لقصائدي التفعيلية غالباً العمودية أحياناً، وحين كنت أعجز عن التعبير عما أشعر به بشكل محكم، كنت أستعير من شاعري المفضل محمود حسن إسماعيل بعض ما أحبه من أشعاره، فأكتبه بخط كبير مصحوب برسوم بدائية أخجل من أن أريها لأبنائي الآن، وأزين بتلك الأشعار المختلطة بالرسوم، رسائلي العاطفية الملتهبة التي أدسها لها بانتظام وسط الملخصات الدراسية التي أخصها بها.

لا زلت أذكر حين قرأ أعز أصدقائي دون إذني واحدة من تلك الرسائل التي كتبت في نهايتها أبياتاً للعظيم محمود حسن إسماعيل يقول فيها:
"عاد للعُشِّ كل طيرٍ
ولم يبق غيرُ طائرٍ شريدٍ مُخبّل
هو قلبي الذي تناسيتِ بلواهُ
فأضحى على الجراح يولول
أقبلي قبل أن تميل به الريحُ
ويهوي بهِ الفناءُ المُعجّل
أقبلي فالحب كأسٌ ثكلى
والشعر ريحٌ مُعطّل"

ولأن صديقي كان حلّوفاً من الطراز الرقيع، إذ يكفي أنه لم يُضبط متلبساً بقصة حب واحدة خلال سنوات الجامعة، لم يؤثر فيه ما قرأه من أبيات لو قرأها الحجر لانبجست منه اثنتى عشرة عيناً، بل انبجست منه شخرة متعددة الطبقات قال بعدها: "بقى تكتب لها مُخبّل وعايزها تحبك يا ابن المخبّلة، وبعدين فرضنا إنها أكلت من الهطل ده وأقبلت، تقدر تقولي هتُقبل فين وإنت مش لاقي تاكل أصلاً".

...

كانت ملاحظاته الكريهة وجيهة وثاقبة، لكنها لم تمنعني مع ذلك من أن أقبل بعد أشهر على مكتب أخيها لأطلبها منه على سنة الله ورسوله، ولكي لا تظن في الاختلال العقلي الكامل، يهمني أن أؤكد لك أن ما فعلته كان رد فعل تصورت أن واجبي كمحب يمليه علي، بعد أن رآنا أخوها بالصدفة، ونحن نمشي في شارع الساحة بوسط البلد، عائدَين من مشروع بحثي في مكتب لأحد أساتذتنا بالكلية كنا تشارك فيه في أجازتنا الصيفية، وحين رأيتها وهي ترتجف من الارتباك أو ربما من الخوف وهي تقول لي إن أخاها عبر إلى جوارنا منذ قليل، وسدد لها نظرات غاضبة، وأنه على ما يبدو كان عائداً من محكمة عابدين القريبة في جلسة مسائية إلى مكتب المحاماة الذي يعمل فيه والذي مررنا إلى جواره ونحن في غمرةٍ ساهون، ودون أن تنتظر ردي أخذت تكرر لنفسها بعصبية قائلة: "بس إيه يعني احنا مش بنعمل حاجة غلط، احنا ماشيين في الشارع زي خلق الله".

ولأن الرجولة أفعال وليست التصاق أفخاذ، فقد أردت أن أثبت لها ولأخيها ولسائر الذين خلّفوها، أنني شاب جادّ وأصيل وأقدس الحياة الزوجية، حتى لو لم أكن في الأصل قادراً على تكاليف حياة العزوبية، ولذلك أخذت بعضي دون استشارة، وذهبت إلى المكتب الذي يعمل فيه أخوها، ولبدت له حتى قابلته، ولكي لا أضيع وقته في محل أكل عيشه، بدأت حديثي بطلب يديها على سنة الله ورسوله، فلم يطردني من المكتب شر طردة كما راهنني شيطاني، بل قرر أن يضرب في الوجيعة بشكل يجعلني أفكر ألف مرة قبل أن أتقدم لبنات الناس، فسألني أسئلة منطقية عن تفاصيل لم أكن أتصور أنها مهمة لتأسيس حياة زوجية، مثل كيف سنأكل وأين سنسكن ومن أين سنؤثث عش الزوجية السعيد؟

كان مجرد النظر إلى شكل حذائي الحزين، سيوفر له إجابة شافية على كل أسئلته، لكنه قرر ألا يترك لي فرصة أطول للثأثأة والفأفأة، بل عاجلني بالقاضية حين سألني بهدوء شديد: "طبعاً أنا باحترم شجاعتك وجدعنتك، بس معلهش يعني في السؤال واحنا شباب زي بعضينا، حتى لو كان بيننا فرق بسيط في السن، بس هو انت سألتها قبل كده إذا كانت بتحبك؟"، لأكتشف أنني بالفعل لم أسألها ولا مرة ذلك السؤال المباشر، لسبب بسيط هو أنني كنت أخاف من إجابته، ولذلك افترضت أن تلقيها المستمر لرسائلي الغرامية المطعمة بالقصائد الأصيلة والمقتبسة، وأن استجابتها لكل اقتراحاتي باللقاء في هذه المكتبة أو تلك الندوة، ليس سوى حب جارف، يمنعها الحياء االذي يزيدها قدراً في نظري من إعلانه الصريح.

كنت أريد أن أصرخ فيه بعزم ما فيّ: "هل تريد أن تقول لي إنها يمكن ألا تحبني، بعد أن اكتشفَت أنني ظللت أنزف من ساقي التي أصيبت، حين نزلت خلفها بجذل من ميكروباص تحرك سائقه اللعين وأنا أنزل، ربما لأنه كان يحقد عليّ ويحسدني على ابتسامتها، هل تريد أن تقول لي إنها يمكن ألا تحبني، لأنني وبرغم آلامي ظللت أسير إلى جوارها بوله وانتشاء، كأنني وليٌ يمشي على الماء، وحين وصلنا إلى مكتب الدكتور، نظرت إلى قدمي حين سبقتها في صعود السلم تأدباً، فاكتشفَت أن الدم أغرق جوربي وحذائي، فأخرجت من حقيبتها إيشارباً وأعطته لي لكي أربط قدمي، ولم تتركني حتى ذهبنا إلى مستوصف الجمعية الخيرية القريب لكي أوقف النزيف الذي اتضح أنه بسيط، لكنه ترك في قلبي آثاراً أعمق من التي تركها في ساقي، كيف يمكن لك أن تسأل بعد كل هذا عما إذا كانت تحبني أم لا؟"، لكنني بمجرد أن رددت تلك الأسئلة بداخلي، أدركت أنه كان سيقول لي بكل بساطة أكثر الإجابات منطقية عليها: "وما علاقة هذا بالحب أيها المُخبّل، ألم تكن أي زميلة تشعر بمودة نحو زميلها الذي لا يكف عن مساعدتها والاهتمام بها، ستفعل ذلك بكل ترحاب، دون أن يعني ذلك أكثر مما يعنيه من جدعنة واهتمام إنساني، ثم ما علاقة هذا بسؤالي الذي لم تجب عليه: هل سألتها قبل ذلك ما إذا كانت تحبك أم لا؟".

"لكن ماذا عن رسائل الحب؟ عن القصائد؟ عن النظرات؟ عن الصمت الذي لا يعني سوى الرضا؟ عن الصحبة التي لا تُملّ؟" لم يجب أخوها على كل هذا لأنني لم أسأله عنه، بعد أن طلب مني بكل لطف وحزم، أن أقطع صلتي بها طيلة ما تبقى من الأجازة، وأن تقتصر علاقتنا عند استئناف الدراسة على المودة المنضبطة التي يحتاج إليها زميلا دراسة، لكنها أجابت على أسئلتي تلك، بعد أن سألتها بعد ذلك بيوم عن رأيها الصريح الواضح في ما قاله أخوها، فقالت لي بكل هدوء إنها لم ترغب في أن تصدمني بحقيقة موقفها مني، وهو أنها لا تفكر في الارتباط الآن، لأن لديها أحلاماً عريضة سيعطلها الزواج، وأنها حاولت أن توصل لي ذلك بشكل غير مباشر، حين كتبت لي قبل شهر رسالة تقول لي إنها مصابة بمرض خطير في القلب يمنعها من أي واجبات زوجية، وأنها حتى لو تهورت لا قدر الله، وحدث ما يؤدي إلى الحمل، ستموت على الفور وهي تحاول الإنجاب، وأنها ظنت أن ما قالته لي سيجعلني أنهي تفكيري في الارتباط بها، خصوصاً بعد كل ما كتبته في رسائلي الأخيرة عن تخيلي لأولادنا في المستقبل، لكنها فوجئت بقراري المنفرد بالذهاب لأخيها، وأنها كانت تظن أن آخري في البلاهة هو تلك القصيدة المطولة التي قلت فيها إنني سأكون لها زوجاً وابناً وأباً وأخاً، وأن مجرد وجودي إلى جوارها سيغنيني عن كل شيء في الدنيا أياً كان احتياج البشر إليه، فلم تعرف كيف ترد، وقررت أن تترك الأمر للزمن، لكي لا تفقد صحبتي التي كانت تحبها، خاصة أنني أحييت فيها أمل أن تكون شاعرة كبيرة، في حين أحبطها الكثيرون من قبلي حين قرأوا أشعارها التي رأت أن تنتهز الفرصة لكي تطلب مني أن أعيدها إليها، طالما أننا لن نرى بعضنا بقية الأجازة، ولعلك لن تستغرب لو قلت لك أنها تركتني ومشت دون سلام ولا كلام، حين فوجئت بي أسألها: "أفهم من كده إن ما عندكيش مرض خطير في القلب".

...

في مطلع العام الدراسي، عرفت الإجابة على سؤالي بشكل صاعق أوضح لي أنني كنت العبيط البيّن وليس هي، فقد كان أول الأنشطة الاجتماعية التي مارستها ذات الشفاه التي لم تعد متقشرة، هو القيام بتوزيع شيكولاتة خطوبتها على أحد أقاربها، الذي أعلنت أنه ستزف إليه في منتصف العام الدراسي، لتكون ثاني فتاة في دفعتنا تتزوج قبل التخرج.

كانت صدمة ما جرى يومها علي قوية جداً لدرجة أنها أخرجتني عن شعوري بشكل لم يتكرر قبل ذلك ولا بعده، ولا زلت حتى الآن أحاول تحديد موقع الخلية العصبية التي دفعتني إلى ذلك القرار الغريب، لأقوم باستئصالها اتقاءاً لشرها المستقبلي.

لحسن الحظ لم يُثر ما فعلته الكثير من التداعيات التي كانت يمكن أن تحولني إلى مسخرة شرعية لزملائي، لأنني كنت حريصاً على كتمان قصة حبي التي لم يكن يعلم بها سوى أعضاء شلة الصابونجية الذين حدثتك عنهم من قبل، والذين أجادوا بدورهم مشكورين كتم انفعالاتهم حين رأوني أذهب إلى سبورة "السكشن" الممتلئ بزملائي المنتظرين لحضور الدكتور، لأمسك بقطعة طباشير، وأكتب على السبورة أبيات أغنية صلاح جاهين الأجمل من فيلم (عودة الإبن الضال):
"حبيبي سُكّر.. مُرّ طعم الهوى
فرّق ما بينّا البين ما عُدناش سوا
حرام عليك يا عذاب نبقى أغراب
ده البعد والله جرح من غير دوا
إيه العمل في الوقت ده يا صديق
غير إننا عند افتراق الطريق
نبص قدامنا لشمس أحلامنا
نلقاها بتشق السحاب الغميق".

لم أكن أكتب بالطباشيرة على السبورة، بل كنت "أكحت" بها قلبي، وكأنني أصبحت صلاح جاهين وقت أن كان يكتب تلك الأبيات، وكأنني كنت وقتها أرى محمود المليجي يجري أمامي في السبورة مودعاً هشام سليم وماجدة الرومي، ومشيراً إليهما أن يذهبا بعيداً وإلى الأبد، وحين التفت نحوي ورآني "أتدألج" وحدي على التل، بصق عليّ وأشار باصبعه الوسطى ومضى.
لم أكتب بيتاً أو بيتين، بل كتبت الأغنية بأكملها حتى ملأت أبياتها السبورة، ولن أخفيك أنني حتى في غمار حزن كهذا، لم يفارقني الهطل الذي زيّن لي ضلالة لذيذة، رأيت فيها أنها سترمي الشيكولاتة من يدها، وتطيح بخاتم الخطوبة بعيداً، ثم تأتي لترتمي في أحضاني، ونخرج سوياً من السكشن، ونحن نغني: "لسه الطيور بتطن والنحلايات بتزن والطفل ضحكه يرن، مع إن مش كل البشر فرحانين".

لكنها بالطبع لم تفعل ذلك، وأكملت توزيع شيكولاتة فرحتها، وواصلت الفرجة مع صديقاتها على الصور والدبلة، ولم يلتفت أغلب زملائي إلى ما كنت أكتبه، إلا حين دخل الدكتور وسأل عن الهايف الذي ملأ السبورة على الفاضي، وحين لم يجبه أحد، أخذ يمسح السبورة بعصبية وهو يلعن الهيافة والفراغ وحس التضامن الجماعي الأبله الذي يسود بيننا في غير محله.
لم يمض وقت طويل، حتى صار تذكر كل ذلك مدعاة للضحك الهستيري، الذي يستوجب الشخر في مطلعه ومنتصفه وختامه، بعد أن كان يستدعي الغضب العارم من قاسية القلب التي استهانت بمشاعري وعواطفي، والتي وصفها محمود درويش ببراعة، حين زارني في الحلم بعد سنوات ونَتَع عليّ أبياته الخالدة: "هي لا تحبك أنت.. يعجبها ملخصاتك وعنايتك الدائمة بها ورسائلك الغرامية التي تطربها وسيرك معها كل يوم نحو الميني باص ومصاحبتك الدائمة لها واكتراثك بكل شيء تفعله مهما كانت تفاهته.. وهذا كل ما في الأمر يا مُخبّل".

...

ستكبر بعدها، وتعرف أن الدماء التي تجري حارة في عروقك حين تهيج، ثم تنسحب من كل أجزاء جسمك لتتركز في عضوك وحده حين تهيج، هي ذاتها الدماء التي تنسحب من كل أجزاء جسمك خصوصاً عقلك، لتتركز في قلبك وحده حين تحب، فترى كل شيء كما تتخيله، وليس على ما هو عليه، ترى الحقيقة التي تحبها، لا الحقيقة الماثلة أمامك.

ولعلك الآن تتوقع مني إذا كنت لا زلت محباً مبتدئاً، أن أقول لك أن مفهومي للحب اختلف بعد أن تجاوزت الأربعين بسنوات، في الحقيقة لا، إطلاقاً، سيظل الحب كما كان في البدء، أن ترى الأمور كما تتخيلها، وليس كما هي على حقيقتها، أحياناً تكون محظوظاً حين تتوحد الرؤية بين ما تراه وما تتخيله، وأحياناً لا تحصل من الحب على شيء، سوى الضلالات اللذيذة التي تتمنى أن تظل فيها إلى الأبد.

ربما كان ما يختلف في الحب مع نضجك وتقدمك في مشوار الحياة، توقفك عن الاعتقاد بوجود حبين: حب للروح وآخر للجسد، فلا تجزع عندما تشتهي من تحب، بل وتدرك أنك لا ينبغي أن تشتهي إلا من تحب، ولا تحب إلا من تشتهي، فلا تجد غضاضة في تذكر موضع التقاء ركبتي الحبيبة بفخذيها، كأنهما مرج البحرين يلتقيان، في ذات الوقت الذي تستمع فيه إلى أم كلثوم وهي تغني "أنا لما حبيتك خطر على بالي، اللي جرى لي واللي راح يجرى لي"، هذا على سبيل المثال لا الحصر.

لكنك في كل الأحوال ستدرك أن الحب ليس أمراً سهلاً، وأن الحفاظ عليه أصعب بكثير من الحصول عليه، وأنه لا وجود فيه لمنحة تديمه إلى الأبد أو نقمة تزيله إلى الأبد، وأنك ستحتاج إلى الكثير من التجارب والأخطاء والكوارث أحياناً لتتعلم الرضا بمن تحبه وكل ما لدى من تحبه: شامات الوجه وتجاعيده، حسنات الذراع وسيئات الطباع، لطف المزاج وشطحاته، جميل الطباع وصعبها، "وأهو من ده وده".

حين تكبر، ربما تفقد اندفاعك القديم الذي كان يجعلك تحب أي شيء حين يتحدث عن الحب، ولا تفكر فيه بعقلك الساخر الذي بات بايخاً في فلترته الدائمة للأشياء، ستشخر لنفسك حين تتذكر كيف بكيت، حين قرأت لسيد حجاب وهو يقول:
"أبيع سرير أمي اللي اتولدت فيه
عمري بماضيه
مستقبلي باللي خافيه
وأغرق في بير حنانك الفايض لحوافيه"

فقد كبرت الآن، وأصبحت تعرف أنك ولِدت على سرير حكومي متهالك في مستشفى الدمرداش، لن يرغب في شرائه إلا تجار الخردة، وأن عمرك بماضيه المتخم ومستقبلك باللي خافيه، لا يشكلان في بلاد كهذه عناصر جذب عاطفي بالضرورة، وأن فكرة أن تحب فتاة لديها "بير حنان فايض لحوافيه" لم يعد لها مستقبل بعد فيلم (ذا رينج) بجزئيه، وأن ما كان يجعل تلك الفكرة ساحرة لك حين قرأتها لأول مرة، أنك لم تكن قد شاهدت بئراً يرمي فيه الأطفال قططاً ميتة.

عندما تكبر وتكبر معك أحلامك وآلامك وآمالك وخيباتها، ستحب الأشياء التي تخصك أنت دون غيرك، كلها على بعضها على تناقضاتها، لن تخجل من ضلالاتك اللذيذة حين تحب بجد، لأنها ستضيئ لك معنى الحب، فتعرف على هدي ضلالها حقيقته، ستضحك على أيام كنت تتخيل فيها أنك أعلنت نهاية العالم بعد وهم ظننته حباً، لأنك لم تكن تعرف وقتها أنك ستعيش حباً قاتلت من أجله ولذلك وحده نِلته، ولم تستسلم بعده لضلالات لذيذة قد تحرمك من كونه حباً متبادلاً، وهل يكون الحب إلا متبادلاً؟ حباً فيه كبوات وصبوات ومنحنيات ومنحدرات، لكن احتمالها كلها يهون، لأن فيه ذروات متعددة لعل أحبها إلى قلبك، حين جلست مع حبيبتك قريباً من شلال، ليس قربه تماماً، لا لكي لا تزعجكما طرطشة المياه، وإنما لكي لا يمنعها صوت هدير الشلال من أن تسمعك، وأنت تغني لها بعزم ما فيك، غِنوة عبد الفتاح مصطفى ومحمد فوزي التي خلق الله الحب بكل طقوسه وتفاصيله، فقط ليكون شريط صورة لها:

"لا في ماضي هاقولك كان.. ولا فاكره ولا نسيته.. ولا مرة جمعنا مكان عشان تدرى اللي قاسيته.. بقلبي لك أنا كلي.. وحايشك عني إيه قل لي.. يا ساكن في الهوى قلبي وساكن في الديار داري.. جمالك كل يوم جنبي آسرني وإنت مش داري.. معاك بعينيا وكفاية.. تنور لي دنياي.. أنا باشكي إليك منك يا حبيبي".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.