لم تتوقّف التحاليل الصحافية كثيراً عند قيام الولايات المتّحدة بقرصنة سفينة صينية تحمل شحنة معدّات طبيّة إلى ألمانيا. وحين تكرّرت الحادثة في أماكن أُخرى بمُقرصِنين ومقرصَنين آخرين، كانت الدولُ منشغلةً بصراعها مع فيروس كورونا وعدّ أرقام الإصابات والوفيات والمتعافين. غير أنَّ هذا الشكل المنقرِض منذ حِقبٍ لا يطرح سؤالاً أخلاقياً بقدر ما يفتح تساؤلاً حول العالم الذي تشكّل اليوم في ظل تفشّي الوباء.
هل وصلت الإنسانية إلى الجدار؟ الكثير من اليقينيات والبديهيات يُعاد تشكيلها، ليس فقط على مستوى التفكير، بل على مستوى الممارسة كذلك. يَنطبق ذلك، أيضاً، على كثير من الأحداث والصُّوَر، سواءٌ كانت ذات طبيعة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية: فنّانٌ يعزف لجيرانه مِن على شرفة منزله فيتحوّل عزفه إلى مبعث فرحٍ وأمل... فنّانو باليه روسي، يجعلون لحظة الحجر الصحي أداء فنّياً... مواطنون يابانيّون يلجأون إلى حديقة الصلاة في أوماموري بحثاً عن صفاء نفسي واختلاء وتصالُح مع الذات.
قدرةُ الإنسان على خلق مساحات من الفرح، والبحثُ عن المشترك الإنساني العميق في لحظةٍ تصدح أصواتٌ منادية إلى وقف إطلاق النار والصواريخ... كلُّ ذلك لا يدلّ على استيقاظ الضمير الكوني، وإلّا كيف نُفسّر هذه القرصنة التي تُعبّر عن منتهى الفردانية؟
يبدو أنَّ الرهان اليوم يتمثّل في فتحِ مزيدٍ من كوّات الأمل، ليس رغبةً في تجاوُز حالة الخوف والوسواس اليومية، بل لإعادة التفكير في إنسانية الإنسان المفتقدة. في منتهى تجلّي العجز الإنساني أمام عدوّ هُلامي، يتّجه الكثيرون الى التفكير في ما يخلق لنا إمكانيةَ الاستمرارية.
يحضُر التفكير لدى كثير من المبدعين والكتّاب والمفكّرين كحالةٍ مستمرة لا ترتهن الى سقف معيَّن؛ لأنَّ ما يحدث اليوم، في العالم كلّه وليس في جزءٍ صغير منه، يَجعلُ أسئلتَنا وكتاباتنا تتجاوز ذواتنا وعوالمنا وحيواتنا الصغيرة. فقط المشتركُ الإنساني الذي يُوحّدنا يستطيع أن يُشكّلَ الرهان والأفق والبديل لأي تفكير في المستقبل.
توارت خطابات المؤامرات والدسائس السياسية، وأمسى الجميع، دُولاً وأفراداً، منشغلين بما يحدث؛ بالموت والفقر والكساد الاقتصادي. أضحى العالمُ قريةً صغيرةً جدّاً لا يحتاج الموت فيها إلى مسافات زمنية، ولا تحدُّ من انتشاره جدرانٌ واقية. في هذه اللحظة المشهودة، يقف العالم ليعُدّ ضحاياه، عاجزاً عن إيجاد لقاح شافٍ لفيروس عابر للقارات. في هذه اللحظة تنفجر الأسئلة عن تلك القيم الإنسانية المفتقَدة.
يبدو الأملُ لقاحاً مثالياً يُمكنّنا من القدرة على الاستمرارية، بعيداً عن خطابات الهيمنة التي اكتشفت عجزها، بترسانتها التكنولوجية والعسكرية، أمام فيروس صغير فتّاك.
وبينما نعيش عزلةً فردية قاسية، لم تتقوّ لدينا خلايا الانعزالية بقدر ما تعزّز تفكيرنا في العودة إلى الإنسان. جعلنا غيابُ الخروج إلى الشارع واللقاءات وتبادُل التحايا نُعبّر عن مشاعرنا بأشكال أكثر إنسانية... أن نتضامن مع الآخر دون تفكير في عقيدته وأفكاره.
* كاتب من المغرب