لسنا مختلفين ولا كتاباتنا مختلفة
هل يمكن الحديث عن كتابةٍ تختص بكل بلد عربي على حدة؟ أقصد هل يمكن الحديث عن كتابة سورية وكتابة مصرية وكتابة فلسطينية وكتابة خليجية وكتابة مغاربية وكتابة سودانية، وهكذا؟ أتحدّث عن الكتابة الأدبية المكتوبة باللغة العربية، والتي يبدو أنها في مراحل متقدمة كمّاً، فدور النشر العربية تصدر سنوياً عدداً كبيراً من كتب الأدب، شعراً ورواية ونصوصاً، عدا كتب الترجمة التي يمكن اعتبارها في أقصى حالات ازدهارها حالياً، إذ تتم ترجمة كتب الأدب وغيره من مختلف لغات العالم إلى العربية، ساهم في ذلك أكثر من ظاهرة: انفتاح العالم على بعضه بعد ثورة الاتصالات والتقنيات الحديثة، وإدراك الشباب العربي أهمية معرفة لغات العالم، خصوصاً مع انتشار المدارس والجامعات الأجنبية في بلادنا، إثر سقوط منظومة التعليم العربية الرسمية التي كانت دليلاً رئيساً على "الدولة الفاشلة" التي يعيش العرب في كنفها، وأيضاً حركة الهجرة واللجوء إلى الغرب، والتي بدأت تقريباً قبل الربيع العربي، وتوسّعت وامتدّت بعد تدميره وإفشاله، وبقاء المنظومات الحاكمة على رأس الدول بآلياتٍ أكثر عنفاً وتسلطاً وفساداً، ما جعل حلم اللجوء الغربي هدفاً لدى معظم الشباب العربي، حتى في الدول التي تبدو مستقرّة أمنياً واقتصادياً!
بالعودة إلى الكتابة الأدبية، كيف يمكن تمييز ملامح كتابة مصرية عن أخرى شامية أو مغاربية مثلاً؟ نحن نكتب باللغة ذاتها، العربية الفصحى التي تعتمدها كل بلادنا في أدبياتها ونظمها وتعليمها وغيره. نكتب ونحن نعيش في بلاد ذات ظروف متشابهة، الحراك السياسي والاجتماعي نفسه الذي بدأ منذ سنوات عشر، الإجرام والعنف نفسه في التعامل معه، الاختلاف في الدرجات، النظرة المركزية الغربية نفسها إلى ما يحدث، تعمّمت على الحراك كله، التعامل الأممي نفسه مع الحدث، النتائج السياسية والاجتماعية والاقتصادية نفسها. لم ينج بلدٌ من هذه النتائج، حتى الذي لم يشهد العنف الذي شهدته بلاد أخرى. الانعكاسات والإرهاصات نفسها التي خلّفها الفشل الذريع في التغيير، ومحاولة التيار الإسلامي المتشدّد القبض على المجتمعات من جديد، جنباً إلى جنب قبضة السلطات العسكرية الأمنية، الخوف والهواجس والكوابيس نفسها، الخيبة والخذلان نفسهما، البحث نفسه عن منفذ أملٍ صغير، يعطي القليل من النور وسط العتمة التي تكاد تودي بنا جميعاً، العزلة نفسها التي لجأ إليها كتّابٌ ومبدعون كثيرون، والبحث عن حلول فردية للنجاة بعد انهيار حلم النجاة الجماعي. الظرف نفسه، في كل مكان عربي بفروق بسيطة جداً، ولا تشكّل ظاهرة يمكن الاعتداد بها. من أين إذاً سوف تأتي الكتابة المختلفة؟ إلا إذا كانت جنسية الكاتب هي المعيار للتفريق بين كتابة سورية أو مصرية أو مغاربية أو خليجية أو لبنانية أو فلسطينية إلخ..! حتى هذه الجنسية تسقط حالياً مع حركة اللجوء الكثيفة إلى الغرب من كل بلاد العرب، فمثلاً كيف يمكن التفريق بين كتابة سورية ويمنية ومصرية وفلسطينية ولبنانية لكتّاب يعيشون في ألمانيا مثلاً أو في فرنسا أو كندا؟ ما مقومات هذا الاختلاف وأين تظهر ملامحها؟ الكتابة ابنة حاضرها وبيئتها، والحاضر واحد والبيئة واحدة واللغة واحدة، أين جوهر هذا الاختلاف إذاً الذي يجعلنا نقول بثقة عالية: هذه كتابة سورية وتلك مصرية وتلك عراقية ..؟
ثم ألم تجعل وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الاتصالات والتقنية المذهلة من العالم كله متشابهاً إلى حدّ مهول؟ يجلس كل منا في منزله، على كنبته أو مكتبه، يضع أمامه شاشة صغيرة يتواصل مع العالم من خلالها، يقضي أكثر من ثلثي يومه وراء هذه الشاشة التي تصيب الجميع بلوثة العزلة والانفصال عن العالم الحقيقي، هل سيسمح هذا بأي اختلاف في الكتابة عن العالم؟ ما الذي يمكن أن تكتبه شاعرة فرنسية تقضي معظم وقتها خلف شاشة الكومبيوتر أو الموبايل، ولا يمكن أن تكتبه شاعرة سورية تعيش بالطريقة نفسها؟ الفرق هنا فقط في اللغة التي تتم بها الكتابة. أما الأفكار والخيال الشعري والمونولوج الداخلي فلن يختلفوا كثيراً. لو ترجمنا قصيدتين لشاعرتين، سورية وفرنسية، إلى الإنكليزية مثلاً، من دون ذكر جنسيتي الشاعرتين، لما وجدنا فرقاً يعوّل عليه. ما الذي يجعلنا إذاً نتحدّث عن كتابة سورية مختلفة عن غيرها سوى محاولة التعويض عن الفشل والهزائم الكبرى التي نعيشها، نحن العرب، بأن نتمايز بنسب "قومي" ننسب إليه حتى كتابتنا بالعربية الفصحى؟