لحن النكوص البديل

20 نوفمبر 2014
تضطر للنظر إلى الخلف بدل التطلع قدما
+ الخط -

تشهد الساحة الغنائية العربية الشابة في السنوات الأخيرة، وتحديدا في مرحلة ما بعد الربيع العربي، عودة مكرورة إلى كلاسيكيات غنائية عربية، تحديدا تلك الأنماط التي كانت في عهدها بديلة للسائد، أو مرتبطة بنضال مناهض له سياسيا ودينيا واجتماعيا. تظهر هنا مثلا العودة المستمرة للشيخ إمام عيسى وسيد درويش. وتكون العودة إما كاملة تشمل الكلمات والألحان والموسيقى والتوزيع، أو عودة جزئية إلى أحد تلك المكونات. ويمكن الوقوف على نماذج واسعة لهذه العودات، بدءا بأسماء صار لها ثقلها في الساحة الغنائية العربية البديلة، وصولا إلى فرق شبابية بسيطة تغني في سياق محلي ضيق جدا.

هنا البديل ليس حالة متجاوزة للسائد أو بديلا عنه، بل عودة إلى الخلف، وتلك العودة كما يبدو لا تحمل تجاوزا للواقع المحمّل بحمولة الماضي وإن كان ينقضها أو يناقضها، بل هي مواجهة له مرتين، مواجهة المنتج المستعاد له اليوم، ومواجهة المنتج المستعيد، سواء أكان استعادة كلية أو جزئية. والنتيجة أن تلك الحالة وهي تحاول أن تطرح البديل أو الجديد تضطر للنظر إلى الخلف بدل التطلع قدما.

يمكن لأي كان القول إن تلك الاستعادات تعبر عن كسل فني، فإعادة التوزيع أو التحريف البسيط في الألحان والكلمات لا يغدو اشتغالا فنيا مكتملا بل تحويرا على بنية كاملة، ويغدو مع الوقت مريحا ولا يحتّم على المشتغلين في مجال الموسيقى والغناء التفكير بتصورات مكتملة حيال الإنتاج الغنائي، بل جزئية قطاعيّة، وتبالغ مع الوقت في جزئيتها ولا تتعامل مع الإنتاج الغنائي كعملية مكتملة وهَمّ شامل.

يضاف إلى ذلك أن إعادة إنتاج أغانٍ وكلمات وألحان لها وزنها بين الجمهور العربي ولها ثقلها النفسي وأثرها البالغ، يساهم في دفع الفرق والمغنين أو الموسيقيين دفعا زائفا إلى الأمام، عماده الرئيس هو الاستعادة وليس الجدّة. لتأتي الرضة العنيفة عند محاولة إنتاج منتج كليّ الجدة، بعد الركون طويلا إلى الاستعادات الفنية تلك. حينها سيغدو البون شاسعا بين تلك الحالة المكتملة والتلقف الشعبي المحمل بالعاطفة والنوستالجيا لها، والمنتج الجديد المظلوم من أفق انتظار المستمع المعتاد على الاستعادات الغنيّة. سيغدو أي حكم ظالما للتجربة برمتها، هذا إن لم تتفاقم الخشية من فشل الجديد وقلق من التجرؤ عليه، ولذلك يعْلق كثيرون في مشاريع الاستعادة، وتخبو في داخلهم رغبة التجريب أو التجديد.

قد تحمل تلك العودة، أو الاستعادة كما يحب أصحابها تسميتها، إشارات إلى معضلة التطور الغنائي بكل مكوناته، من كلمة ولحن وموسيقى وتوزيع. في حالات العودة الجزئية إلى المشاريع الغنائية السابقة يبدو أن أحد مكونات الغناء يعيش تأخرا في حين تعيش المكونات الأخرى تقدما، وعلى صحة هذا الادعاء في بعض الحالات إلا أن العودة تمنع من مواجهة الحالة لنقاط ضعفها، ويحرم الاشتغال الجماعي من دفع مكوناته المختلفة.

ومهما اتضح النفس التحديثي والتطويري في تلك المشاريع والانشغالات إلا أنه يظل غير قادر على التجاوز أو الانتقال من حالة البديل إلى ما بعده. لأن البديل مهما حاول تجاوز ما يطرح نفسه كبديل له، ستظل فيه ملامحه، وحين ينشغل البديل في الاستعادات، يزداد ابتعادا عن مقصده. طبعا يستثنى من كل هذا من يريدون العودة للماضي للاحتفاء به كنزوع ماضوي وحسب لا يحمل همّا متصلا بالحاضر الغنائي ولا المستقبل.

بالضرورة لا تمكن محاكمة كل حالة من حالات الاستعادة تلك على حدة، بل يمكن النظر إلى الحالة ككل والتوقف عند هذا المآل الاستعادي، وتحديدا حين يترافق بتنظير يوهم بأنه تصوّر واع عن الإنتاج الغنائي في هذه المرحلة وله شروطه ورؤيته، وليس مجرد إخفاق في الإتيان بجديد متجاوز يغلّف بمحاولات شرعنة وتنظير.

دلالات
المساهمون