يوظف الفنان لحسن زينون في عرض "فرحة دكالة" فن "العيطة"، وهو فن غنائي تراثي مغربي، عبر لوحات درامية متتالية يمتزج فيها الغناء بالرقص، بمشاركة حوالي ثلاثين عازفاً يتناوبون على العزف على الكمان والطبلة (الطعريجة)، ترافقهم عشرون مغنية ينشدن الأهازيج ويرقصن بلباسهن التقليدي.
اختار لحسن زينون فن "العيطة" لكونه فناً مغربياً متأصلاً في جذور التراث الشعبي المغربي، وهو عبارة عن مجموعة من القصائد الغنائية تتخللها فواصل موسيقية، وقد شاعت كثيراً في أوساط القبائل المغربية في بداية القرن الماضي، وغالباً ما تتناول حكايات العشق والمتعة والتغني بالجمال والشرف، كما لعبت دوراً مهماً في شحذ الهمم أثناء مقاومة القبائل للاستعمار الفرنسي.
ويشتمل العرض على عشرات اللوحات المنفصلة، يتولى فيها عازف مهمة العزف أحياناً بالطبلة وأحياناً أخرى بالكمان لضبط الإيقاع، تصاحبه المجموعة بمهمة الغناء والترديد والحركات الراقصة. وقد أبدع المؤدون في مهماتهم الفردية والجماعية وبذلوا جهداً جسدياً خارقاً في تأدية أدوار العزف والغناء والرقص، خصوصاً عندما تناوبوا على التنافس في أداء رقصةِ "كلاكيت" مدهشة تقطع الأنفاس، عُرضت على مسرح "معهد العالم العربي" في باريس، الجمعة الماضي.
جاب زينون قرى وبلدات منطقة دكالة، وسط المغرب، وحضر عشرات الأعراس التي تحييها الفرق المحلية واختار ثلاثين عازفاً من بينهم، يُسمّون "شيوخاً" في المعجم المحلي، لتكوين فرقة "فرحة دكالة". أما المغنيات، اللواتي يُطلق عليهن في المنطقة "اللَّعابات" أو "العونيات" فجلّهن هاويات وفنانات بالفطرة يغنين عادة في الأعراس والمواسم الفلاحية والمناسبات العائلية. وقد اجتهد زينون وعانى كثيراً من أجل خلق مجموعة متجانسة وإقناعها بأداء عرض "كوريغرافي" لم يسبق لأفرادها أن مارسوه أو حتى شاهدوه.
حول هذه النقطة، أسرّ لـ"العربي الجديد": "واحدة من الصعوبات الكبيرة التي واجهتني في تحقيق هذا العرض، هي إقناع "الشيوخ" بالعزف والغناء بشكل جماعي واستعمال أجسادهم في اللوحات الكوريغرافية. فهؤلاء معتادون على الأداء المنفرد ويعتبرون الشيوخ الآخرين منافسين شرسين لا يمكن التعاون معهم. كما أنهم معتادون على الأداء الموسيقي جلوساً، بينما هذا العرض يتطلّب منهم الأداء وقوفاً وإنجاز حركات راقصة والتحرك بسرعة وسلاسة في فضاء الخشبة. لقد تطلب مني تدريبهم على هذا النوع من الأداء الكوريغرافي وقتاً طويلاً، ونجحنا في النهاية".
استثمر زينون خبرته ومهاراته العالية كراقص محترف في تقنية الأجساد والرقص الكلاسيكي لتقديم "كوريغرافيا" محكمة وسلسة تعتمد على إيقاع الجسد، ويساهم في تغذيتها استثمار ذكي للضوء والإنارة بشكل متناسق مع طبيعة المشاهد والرقصات والأغاني التي تعزف على الوتر الحساس للذاكرتين السمعية والبصرية المغربيتين. كل هذه التقنيات المتضافرة ساهمت في خلق سمفونية متكاملة يختلط فيها السمعي والبصري في زواج فريد.
قصة زينون مع الرقص الكلاسيكي والباليه لا تخلو من الطرافة والغرابة، وتعود إلى عام 1956، تاريخ استقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي، حين كان صبياً في الثالثة عشرة من عمره، ومرّ صدفة أمام مبنى "المعهد الموسيقي" في الدار البيضاء فتناهت إلى سمعه أصداء موسيقى كلاسيكية خلبت لُبَّه. التحق لاحقاً بهذا المعهد، الذي لم يكن يخالطه آنذاك سوى أبناء الفرنسيين والطبقة المغربية الميسورة، بعد أن أشفقت عليه مديرة المعهد بسبب فقره الشديد.
بعد تخرجه عام 1964 وانتزاعه جائزة أفضل راقص، طرده والده من البيت من دون تردد، ذلك أن الرقص بالنسبة إليه وإلى غالبية المغاربة كان آنذاك مهنة مستهجنة لا تزاولها سوى شريحة "فاسدة" من النساء. وبتشجيع من مديرته، غادر زينون إلى بلجيكا وواصل دراسة الرقص مع فرقة الراقص الشهير موريس بيجار إلى أن حصل على درجة "راقص نجم" "Danseur étoile"، وهي أعلى درجة في سلّم الاحتراف بالنسبة إلى الرقص الكلاسيكي.
في السبعينيات تنقّل زينون عبر العواصم العالمية ممارساً الرقص الكلاسيكي ضمن أشهر الفرق الدولية، وحصد العديد من الجوائز، لكنه ظلّ مسكوناً بهاجس تطوير فن الرقص الكلاسيكي في المغرب ومحاولة إيجاد صيغة توفيقية تصالحه مع الرقص التراثي المغربي. وهذا ما قام به مع زوجته الفرنسية ميشال باريت، هي أيضاً راقصة كلاسيكية محترفة، حين أسّسا معاً مدرسة "باليه ومسرح زينون" عام 1978.
تسنّت للفنان فرصة ذهبية في مستهل الثمانينيات، حين كلّفه وزير الثقافة المغربي السابق، أحمد بنعيسى، بتكوين فرقة محترفة للرقص الكلاسيكي. لكن زينون عاش مأساة حقيقية حين كاد الملك الراحل الحسن الثاني أن يرمي به في السجن إثر غضبة كبرى فقد فيها الملك أعصابه. فبينما كانت فرقة زينون تؤدي عرضاً راقصاً يمزج بين الرقص الكلاسيكي والتراث المغربي، في حفل لإحدى الأميرات، دخل الحسن الثاني واستشاط غضباً عند مشاهدة زينون وهو يؤدي مشهداً راقصاً على الخشبة، فهدّده قائلاً: "المغرب بلاد الفرسان والرجال، والرجال لا يرقصون، بالله العلي العظيم إن لم تترك التراث المغربي لحاله ستحل بك لعنتي".
كانت صدمة كبرى للفنان، يقول حولها: "أصبتُ بنوبة اكتئاب فظيعة وانزويت في بيتي ولم أخرج منه لشهور عديدة، إلى أن هدأت العاصفة فحزمت حقائبي من جديد وعدت إلى أوروبا وأنا في غاية الشعور بالغبن".
بعد تلك الحادثة، مرّت مياه كثيرة تحت الجسر وتغيّرت النظرة إلى "الكوريغرافيا" والرقص الكلاسيكي في المغرب، فعاد زينون إلى الدار البيضاء وأنشأ مهرجاناً سنوياً للرقص الكلاسيكي وفُتحت أمامه كل الأبواب لإنجاز العديد من العروض التي يمزج فيها الفنان بين الغرب والشرق، وترضى النخبة وعامة الشعب معاً. "استطعت أن أمحو عقدة الحسن الثاني من ذاكرتي وطويت الصفحة عندما صفق الملك محمد السادس إعجاباً بعرض "فرحة دكالة". هذا دليل على أن قيم الحداثة ترسخت في مغرب اليوم"، يقول الفنان في ما يشبه التنهيدة.
إضافة إلى العروض الموسيقية الراقصة، دخل زينون غمار الفن السابع في مستهل عام 2000 وأخرج ثلاثة أفلام قصيرة وفيلمين روائين: "عود الورد" و"الموشومة" الذي خلق ضجة كبيرة في المغرب نظراً إلى جرأته في تناول الجسد المغربي واشتماله على بعض المشاهد العارية. كما شارك في تصميم موسيقى ورقصات لعدد كبير من الأفلام السينمائية العالمية، نذكر منها "الإغواء الأخير للمسيح" للمخرج مارتن سكورسيزي، و"شاي في الصحراء" لبرناردو برتولوتشي.