لجنة تشيلكوت ترأف ببلير... وجهود برلمانية لملاحقته كـ"مجرم حرب"

07 يوليو 2016
أقرباء الجنود البريطانيين يُطالبون بمحاكمة بلير (كريس راتكليف/Getty)
+ الخط -
أغلب الظنّ أن العراقيين والعرب عموماً لن يعبأوا كثيراً بخلاصات تقرير لجنة تشيلكوت البريطانية، والتي قيّمت المشاركة البريطانية الرئيسية عن جريمة غزو العراق في عام 2003، والنتائج التي ترتّبت عنه. فالخراب الناتج عن قرار الثنائي سيئ الذكر بالنسبة لطيفٍ واسع من العرب، جورج بوش الابن وتوني بلير، أكبر بكثير من أن تُعبّر عنه بيروقراطية المملكة المتحدة وأجهزتها و"دولتها العميقة"، والتي لا تحاسب حقيقة ولا تحاكم ولا تعاقب طبقتها السياسية، طالما أن الجريمة تتعلق بالعرب بشكل عام.

وبالفعل، جاءت نتيجة عمل اللجنة التي أسسها رئيس الوزراء السابق غوردون براون في عام 2009، في 2.6 مليون صفحة ومئات الوثائق، وكأن حجم الدمار والموت والخراب والانهيار في العراق والجوار، كنتيجة رئيسية لجريمة احتلال العراق وتدمير بنيته الدولتية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، كان بحاجة لهذه السنوات والتكاليف من التحقيقات والاستجوابات وصياغة التقرير الهائل، والذي جاءت مصطلحاته باردة وحذرة للغاية من مغبة إدانة بلير حتى، مع أن فحوى الخلاصات كافية لإدانته ولمحاكمته بأكبر الجرائم. لكن التعويل اليوم هو على مبادرة السلطة التشريعية في المملكة لتقديم الرجل إلى المحاكمة، وهو ما بدأت بوادره تظهر إلى العلن فور صدور التقرير. جهود قد تصطدم بشبكة العلاقات الهائلة التي يملكها توني بلير في الأوساط العالمية وبعض دوائر القرار الخليجية، والمصرية والإسرائيلية والأميركية طبعاً، والتي تحوّل مسؤولاً عن مأساة عالمية إلى سياسي تحترمه دوائر صنع القرار، وتقلّده مناصب سياسية واستشارية من الطراز الأول.

ومن دون الوصول الى حد اتهام بلير بارتكاب جرائم حرب، بسبب قراره غزو العراق في عام 2003، قال رئيس لجنة التحقيق في مشاركة بريطانيا في الحرب، السير جون تشيلكوت، إن "خيار المشاركة في الحرب على العراق في عام 2003 لم يكن الخيار الأخير، وقد تم اتخاذه قبل استنفاد الخيارات السلمية الأخرى".



وعلى الرغم من تفادي تقرير تشيلكوت إدانة قرار غزو العراق، أو حتى وصفه بـ"اللاقانوني"، غير أن سياسيين بريطانيين لا يستبعدون ملاحقة بلير قضائياً، بوصفه "المسؤول الأول عن جرّ بريطانيا إلى حرب"، وصفها تقرير تشيلكوت بـ"غير الضرورية"، و"الفاشلة". وبالفعل فقد استبق عدد من النواب في مجلس العموم البريطاني نشر تقرير لجنة التحقيق بحشد الدعم المطلوب في محاولة محاكمة بلير من قبل مجلس العموم، باستخدام آلية برلمانية قديمة، لم تستخدمها السلطات التشريعية منذ عام 1806. ونقل موقع صحيفة "ذا ميل" البريطانية عن مصدر برلماني قوله إن "المساءلة القانونية غير بعيدة عن أذهاننا، ولكننا نحتاج أولاً للاطلاع على تقرير لجنة التحقيق ودراسته. هناك بالتأكيد شعور بأن بلير يجب أن يُحاسب بشكل صحيح بسبب تصرفاته التي قادت إلى حرب كارثية". وذكرت صحف بريطانية أن "عملية محاكمة بلير من قبل السلطة التشريعية قد تبدأ بطلب من نائب واحد، يقدم اقتراحاً مشفوعاً بأدلة، ثم تشرع لجنة من مجلس النواب بإعداد وثيقة المساءلة القانونية. وإذا تمت إدانة بلير من قبل السلطة التشريعية، تحال القضية إلى السلطات القضائية تمهيداً لمحاكمة قضائية قد تؤدي إلى سجنه". كما اقترح زعيم حزب "العمّال" المعارض، جيرمي كوربين، على مجلس العموم اتخاذ إجراءات ضد بلير بسبب "التضليل الذي مارسه في الفترة التي سبقت الحرب". 

وبموازاة صدور التقرير، تظاهر المئات من معارضي غزو العراق، صباح أمس الأربعاء، أمام منزل بلير، وأمام "مركز الملكة إليزابيث للمؤتمرات"، حيث عقد السير تشيلكوت مؤتمره الصحافي للإعلان عن خلاصات تقرير لجنة التحقيق، مطالبين بملاحقة بلير لارتكابه "جرائم حرب".

وفي هذا السياق، اعتبرت حركة "أوقفوا الحرب" التي عارضت غزو العراق أن "تقرير تشيلكوت اتهام صريح لتوني بلير والمحيطين به، في دفعنا إلى الحرب في العراق". وذكرت الحركة في بيان صدر بعد الإعلان عن نتائج لجنة التحقيق أن "الحركة المناهضة للحرب والملايين الذين تظاهروا ضد قرار الغزو، يطالبون الآن بالعدالة".



لا شكّ أن التقرير الذي جاء في نحو 2.6 مليون كلمة مطبوعة، مرفقة بـ1500 وثيقة، سيُشكّل انعطافة في طريقة عمل المؤسسات السياسية والأمنية البريطانية. وعليه، رسم رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، ملامح ذلك في أول رد فعل له على خلاصات اللجنة بالقول إن "تجربة العراق تقدّم دروساً أولها أن الحرب يجب أن تكون الملاذ الأخير، وثانيها أن الحكومة لا يجب أن تلتزم بتدخل عسكري من دون نقاش كامل وشامل في مجلس الأمن القومي وثالثها أنه يجب ألا يخشى المسؤولون الطعن في قرارات الوزراء، وأن يكون للجميع حق التعبير عن أفكارهم في مجلس الأمن القومي".

في المقابل، حدّ كاميرون من حجم تداعيات تقرير تشيلكوت على الخيارات الاستراتيجية لبريطانيا، بالقول إن "التقرير لا يجب أن يجعلنا نستبعد المزيد من التدخلات العسكرية، وأن تجربة العراق لا ينبغي أن توقفنا عن دعم الولايات المتحدة".

واعتبر رئيس اللجنة أن "بلير قدم المعلومات الاستخباراتية حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، على أنها أكيدة، من دون تقديم ما يبرر ذلك". وأضاف أن "رئيس الوزراء آنذاك، توني بلير، عمد خلال تبرير قرار الحرب أمام البرلمان والجمهور في العامين 2002 و2003، إلى المبالغة في وصف التهديد الذي يشكله النظام العراقي". وأردف أن "تحقيقات اللجنة وجدت أن بلير التزم للرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، بالقول: سوف أكون معكم، مهما كان، مُتجاهلاً تحذيرات بشأن احتمال عواقب العمل العسكري، مُعتمداً بشكل كبير على معتقداته الخاصة، بدلاً من الأحكام الدقيقة المُقدمة من أجهزة الاستخبارات".

ولفت السير تشيلكوت إلى أن "قرار المشاركة في الحرب على العراق بُني على معلومات استخباراتية وتقديرات باهتة"، معتبراً أن "بريطانيا أضعفت سلطة مجلس الأمن بالتصرف من دون الحصول على تأييد الأغلبية". وكشف أنه "تمّ تحذير بلير بأن التحرّك سيزيد نشاط تنظيم القاعدة في بريطانيا، لكن رغم ذلك تمّت الاستهانة بتبعات الغزو وكان التخطيط غير مناسب على الإطلاق". وفي نهاية حديثه قال السير تشيلكوت إن "لجنة التحقيق خلصت إلى أنه لم تكن هناك حاجة للذهاب إلى حرب العراق في 2003". ولم توجّه اللجنة أي اتهامات لشخص توني بلير بارتكاب جرائم حرب، معتبرة أن "القرار حول العراق قد بُني على معلومات استخباراتية وتقديرات باهتة".

وبعد الاستماع لأكثر من 150 شاهداً، وعقد أكثر من 200 اجتماع مع مسؤولين حكوميين، ومراجعة نحو 150 ألف وثيقة حكومية، ونحو 130 جلسة استماع، وإنفاق نحو 9 ملايين جنيه إسترليني منذ عام 2009، اعتبر تشيلكوت أن "المخططات البريطانية لفترة ما بعد اجتياح العراق عام 2003 كانت غير مناسبة على الإطلاق".

وفي أول تعليق له على ما أعلنه تشيلكوت، رفض بلير معظم ما ورد في التقرير، وقال "اعتذرت عن الأخطاء وليس عن قرار الحرب". وأضاف: "أتحمّل المسؤولية الكاملة لأي أخطاء من دون استثناء أو عذر، وقد اتخذت قرار خوض الحرب في العراق بنية خالصة، ولا أعتقد أن الإطاحة بصدام حسين هي سبب الإرهاب الذي نراه اليوم في الشرق الأوسط وغيره". وأضاف أن "غزو العراق قاد إلى نزع سلاح ليبيا من أسلحة الدمار الشامل، وأغلق نشاط شبكة عبد القادر خان (أبو القنبلة النووية الباكستانية) التي كانت تعمل على بناء ترسانة نووية هناك". وحول العلاقة مع الولايات المتحدة، اعتبر بلير أنه "يجب أن يكون هناك ركيزتان لسياسة بريطانيا الخارجية: علاقة قوية مع الولايات المتحدة، وعلاقة قوية مع أوروبا". ورأى أن "القرار بعدم قصف سورية في عام 2013 (حين قصف النظام السوري الغوطة بالسلاح الكيماوي) خطأً جوهرياً". وذكر أن "العراق والشرق الأوسط سيستقران وهناك دافع للتخلص من السياسات الطائفية".

وكان بلير قد مَثل يوم 29 يناير/ كانون الثاني 2010 أمام لجنة التحقيق البريطانية لتقديم الحيثيات التي استند إليها للمشاركة في الحرب التي قادتها الولايات المتحدة وقتل فيها 179 جندياً بريطانيا. وقد دافع بقوة عن القرار الذي اتخذه عام 2003 بإرسال أكثر من أربعين ألف جندي بريطاني للمشاركة في حرب العراق، زاعماً أن تقييم المخاطر التي كانت تفرضها "الدول المارقة" تغير بشكل جذري بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 على الولايات المتحدة. وطالما دافع بلير عن الاتهامات الموجهة له بالزعم أن الشرق الأوسط لم يكن ليصبح أكثر استقراراً لو تُرك صدام حسين في السلطة وهو قادر على تطوير أسلحة دمار شامل. والحجة الثانية أن إيران وتنظيم "القاعدة" هما المسؤولان عن "حمام الدم" المتواصل في العراق منذ 2003.

وتضمن تقرير لجنة "شيلكوت" انتقادات لكامل الفريق السياسي والعسكري الذي شارك بلير قرار الحرب، لا سيما وزير الخارجية آنذاك جاك سترو، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية "إم أي 6" السير ريتشارد ديرلوف، ورئيس لجنة الاستخبارات المشتركة، السير جون سكارليت، ووزير الدفاع، جيف هون، ووزيرة التنمية الدولية، كلير شورت. وكان سترو قد قال إن "العواقب التي نجمت عن قرار التدخل العسكري ضد العراق ستعيش معي لبقية حياتي".

وتضمّنت أبرز خلاصات تقرير لجنة التالي: الغزو لم يكن الخيار الأخير. لم تكن هناك حاجة للحرب في عام 2003. المعلومات الاستخباراتية قدمت على أنها يقين من دون تقديم ما يبررها. التخطيط لمرحلة ما بعد الغزو كان غير كافٍ على الإطلاق. الحرب كانت فاشلة. بريطانيا قوّضت سلطة مجلس الأمن الدولي. عملية اتخاذ القرار كانت قانونية وغير مرضية. كان على لجنة الاستخبارات المشتركة تحذير بلير من قبول محدودية المعلومات الاستخباراتية حول أسلحة الدمار الشامل العراقية. بلير تجاهل التهديد الذي قد يشكله الغزو على المملكة المتحدة. كان على بلير توقع مشاكل ما بعد الغزو. بلير بالغ بقدرته في التأثير على الولايات المتحدة.