لتعرية أبواق إسرائيل العربية والتصدّي لتضليلها

16 مايو 2020
+ الخط -
يتعرّض المواطن العربي اليوم لهجمة دعائية كبيرة مموّلة ومدعومة من بعض الأنظمة العربية، بغية تضليل البسطاء وغير المطلعين من عامة الشعب، لقلب معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، وجعل الضحية الفلسطينية هي المشكلة التي يجب التخلص منها، والمجرم المعتدي هو الضحية الذي يجب التعايش والتطبيع معه. 
ليست حملات التضليل الصهيونية هذه جديدة، فمنذ إنشائها عام 1897 في أوروبا، اعتمدت المنظمة الصهيونية على سياسة الخداع لتحقيق مشروعها الذي حدّدته بشكل صريح بأنه مشروع استعماري استيطاني يهودي في فلسطين والعالم العربي، يهدف، كما كتب أبو الصهيونية، ثيودور هيرتزل، إلى طرد الشعب الفلسطيني من وطنه، وإقامة إسرائيل الكبرى على ما أطلقوا عليه "إيريتز إسرائيل"، أي أرض إسرائيل التي حدد هيرتزل حدودها في مذكّراته بأنها "من النيل إلى الفرات". فكانت أولى خِدَعِ الصهاينة موجهة إلى اليهود في أوروبا لإقناعهم بدعم مشروعها وتقديم الأموال له، فحوّلت اليهودية من دين إلى قومية، وجعلت من اليهود "شعبا"، ورفعت شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وأن فلسطين خالية من البشر بانتظار "عودة" اليهود، مدّعية زوراً أن يهود أوروبا هم أصلاً من فلسطين، ولهم حقوق تاريخية فيها ... وأن اللاسامية ضد اليهود متأصلة في الآخرين، والخلاص الوحيد هو في "عودتهم" وإقامة دولة يهودية في فلسطين.
ولنيل دعم (وتعاطف) الهيئات الكنائسية والمسيحيين صَهيَنوا التوراة، مدّعين أن الله قد وعد 
اليهود بإعطائهم فلسطين، الأرض المقدسة. في الوقت الذي إن كنا نريد أن نأخذ ما جاء في التوراة محمل الجد، فإن ذلك الوعد أعطي لإبراهيم وذريته، أي أنه يشمل العرب وليس اليهود فقط، ولكن عنصرية التوراة والتلمود لا تعترف بإسماعيل بأنه ابن سيدنا إبراهيم، وإنما فقط بإسحاق، على الرغم من أنه عندما أعطي ذلك الوعد كان هناك إسماعيل فقط من ذرية سيدنا إبراهيم، فإسحاق لم يكن قد ولد بعد.
ومن أجل الحصول على دعم قوة كبرى وتبنّيها تحقيق المشروع الصهيوني، تعهدوا بحماية مصالح تلك الدولة في العالم العربي، في مقابل مساعدتهم للسيطرة على فلسطين. وجدت بريطانيا ضالتها في المشروع الصهيوني فتحالفت معه، ووعدت بتقديم كل ما يتطلب لإنجاز المشروع، متجاهلة الشعب الفلسطيني وحقوقه. من هنا، بدأ الصهاينة توجيه دعايتهم نحو العرب، لتضليلهم ونيل تعاطفهم، مدّعين أنهم أبناء عم، وأن هدفهم هو التعايش وإيجاد مأوى للمساكين اليهود في فلسطين، وأنهم سوف يجلبون معهم الخير والمال والتطور والازدهار والمنفعة لفلسطين والعرب. وجدت تلك الدعايات في الثلاثينيات والأربعينيات من يردّدها ويروّجها في الإعلام العربي، إما عن طيب خاطر وجهل بالمشروع الصهيوني، أو عن خبث مقابل مصالح ومنافع شخصية.
عندما حصل الصهاينة على قرار تقسيم فلسطين عام 1947، بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، وما مارسته من ضغط ووعيد وتهديد على الدول الفقيرة، ادّعوا تكتيكياً موافقتهم على قرار التقسيم، ولكن ما أن ثبتوا أقدامهم في فلسطين عن طريق هجرات مشرعنة بريطانياً وغير مشرعنة، شنوا حربهم متجاوزين قرار التقسيم، محتلين 78% من فلسطين، طاردين أكثر من 70% من الشعب الفلسطيني، سارقين وطنه وأملاكه وبيوته المفروشة، وغيّروا اسم فلسطين ومحوها من خرائط العالم وسمّوها إسرائيل، وادعوا أن العرب هم من شنوا الحرب عليهم، وأن الصهيونية هي "حركة تحرّر الشعب اليهودي"، وأن إعلان قيام الكيان الإسرائيلي هو "إعلان الاستقلال"، وبذلك تقمّصوا شخصية (وكينونة) الشعب الفلسطيني الذي كان يناضل ضد الاستعمار البريطاني من أجل استقلاله، وأصبحوا هم الشعب الأصلي للبلاد، وكأنهم ليسوا دخلاء محتلين، وإنما محرّرون للبلاد من الاستعمار البريطاني الذي أوجدهم ودعمهم ودرّبهم وسلحهم وسلمهم زمام الأمور في فلسطين التي قمع شعبها وجرّده من أي سلاحٍ يدافع به عن وطنه وأملاكه وعائلاته، وقتل خلال سنوات احتلاله حوالى خمسين ألفا من أبنائه ومناضليه، وشنق 196، وسجن الآلاف، ثلاثمئة منهم مدى الحياة، حتى يتسنّى للصهاينة احتلال فلسطين والسيطرة عليها.
عندما رفضت هيئة الأمم قبول عضوية إسرائيل ما لم تنسحب إلى حدود قرار تقسيم فلسطين، حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181، وتسمح للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى بيوتهم وأملاكهم وتعوض لهم، حسب القرار 194، وافقت إسرائيل على تنفيذ القرارين، ولكنها ما أن حصلت على العضوية في هيئة الأمم رفضت تنفيذهما، بل دمرت 531 مدينة وقرية فلسطينية لمنع اللاجئين من العودة إلى وطنهم وبيوتهم. وفي اجتماعها مع وفد من البرلمان البريطاني عام 1969، قالت رئيسة وزراء إسرائيل، غولدا مائير، لهم بكل وقاحة "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، وكأن هناك من يعتبرون أنفسهم فلسطينيين، وجئنا وألقيناهم خارجاً وأخذنا وطنهم منهم، إنهم لم يكن لهم وجود".
لم يتوقف تضليل الصهاينة، فروّجوا دعاية حول العالم ادعوا فيها أن "فلسطين كانت صحراء 
وأنهم جعلوا من الصحراء جنة". هذا في وقتٍ كانت فلسطين منذ آلاف السنين فعلاً جنة عامرة متطوّرة زراعياً وعمرانياً، وقبل أن تطأ أرجل العبرانيين تلك الأرض التي أتوها لاجئين مع أبونا إبراهيم عليه السلام من بلاد أور (اليمن والعراق الآن)، وبشهادة توراتهم نفسها التي وصفت فلسطين (الأرض المقدّسة) بأنها أرض اللبن والعسل. وادعوا أن العرب يريدون تدمير إسرائيل ورمي اليهود في البحر، في الوقت الذي دمروا فيه فلسطين ومحوا اسمها من الخرائط، وألقوا الفلسطينيين في البحر والصحراء. وادّعوا أنهم يريدون السلام، ولكنهم شنوا الحروب والعدوان والمذابح من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 إلى عدوان 1967 على مصر والأردن وسورية إلى عدوانهم على لبنان عام 1982 ...، وادعوا أنهم قبلوا تطبيق قراري مجلس الأمن 242 و338 التي تطالبهم الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلوها عام 1967، ولكنهم في الواقع لم يتوقفوا يوماً في بناء مشروعهم الاستعماري لإقامة إسرائيل الكبرى التي تتوسع حدودها يوماً بعد يوم، وسنة بعد أخرى، إن كان في ضم مدينة القدس والجولان السوري أو في بناء المستعمرات اليهودية، وقريباً غور الأردن، تحضيراً لمرحلة توسع جديدة.
لا يوجد حد للتضليل الصهيوني الذي وصل الآن إلى أن يروّج أن اليهود العرب في إسرائيل هم اللاجئون، وأن الدول العربية سرقت أملاكهم وعليها التعويض لهم، وكأن إسرائيل لا تريد اليهود ولم تعمل جاهدة على ترحيلهم من أوطانهم بشتى الوسائل، وبما في ذلك رمي القنابل على معابدهم ومقاهيهم وزرع الشقاق بينهم وبين بقية الشعب، عبر عناصر "الموساد"، لإجبارهم على الرحيل، كما فعلت ضد يهود العراق والمغرب.
هذا جزء ضئيل من أكاذيب الصهاينة، دهاة التضليل والنفاق، وإسرائيل قامت على الكذب والخداع. إنهم يبتكرون كذبة ويكرّرونها بشكل مستمر، لكي تصبح حقيقةً يصدّقها الناس، ويبدأون بترديدها، حسب قاعدة "السياسة هي فن التكرار". مطبقين نظرية غوبلز النازية إنه كلما كبرت الكذبة صدّقها الناس، وكلما كرّرت الكذبة صدّقها الناس أكثر.
وها نحن نشاهد الآن من يردّد ويروج الدعايات الإسرائيلية التي لم يبرحوا يردّدونها منذ أوجدوا مشروعهم الاستعماري الصهيوني في فلسطين، عاكسين الحقائق، بغرض لوم الضحية وتحميلها وزر كل مصائب العالم العربي، بدل إسرائيل، وزرع العداء والكراهية ضد الشعب الفلسطيني في بثّ دعاياتٍ كاذبة خبيثة، مثل أن الفلسطينيين باعوا أرضهم وبيوتهم لليهود، وأن الفلسطينيين والقضية الفلسطينية عبء وسبب مشكلات العالم العربي، وليس إسرائيل، ما يعني أن اليهود لم يسرقوا فلسطين ولا أملاك الشعب الفلسطيني، وأن التخلص من الفلسطينيين وقضيتهم والتطبيع والسلام (اقرأ الاستسلام) مع إسرائيل، سوف يحل مشكلات الدول العربية الاقتصادية والأمنية، وهو التضليل الجديد، وعكس ما حصل مع مصر والأردن. وفي الوقت الذي تبيّض فيه جهات عربية وجه إسرائيل والمجرمين الصهاينة، تقوم إسرائيل بمزيد من العدوان والقمع والإجرام والعنصرية، وبناء المستعمرات وهدم البيوت، وقتل الشبيبة الفلسطينية، والتحريض ضد العرب والمسلمين، وإشاعة صورة نمطية عنهم لدى اليهود وفي عقول شعوب العالم.
لم يأت المشروع الاستعماري الصهيوني للعالم العربي بالخيرات كما كان يدّعي، ولم يأت 
بالازدهار والأمن والاستقرار للدول التي أقامت السلام معه، لا بل على العكس من ذلك. ولم يأت حتى بالأمن لليهود أنفسهم، حيث جعلوا من فلسطين أخطر مكان يوجدون فيه، وبثوا الكراهية لليهود في أنحاء العالم، بسبب التخفّي وراء اليهود في كل جرائمهم التي يرتكبونها باسمهم.
إن ترديد بعض الأنظمة العربية الدعايات الإسرائيلية المغرضة وترويجها في العالم العربي لتبييض وجه إسرائيل القبيح، والتغطية على جرائمها وعنصريتها وتضليل البسطاء وغير المطلعين من جانب، وزرع العداء والبغضاء ضد الشعب العربي الفلسطيني من جانب آخر، ليس وليد مصادفة، وإنما هو مخطط يدعمونه مادياً وسياسياً من ضمن مخطط "صفقة العصر" الإسرائيلي الأميركي سيئ الصيت، لتصفية القضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل وتمهيد الطريق لتوقيع اتفاقات سلام معها، بدون اعترافها بحقوق الشعب الفلسطيني، وعودة اللاجئين إلى وطنهم ومدنهم وقراهم.
هذه الأبواق الدعائية من بعض الشواذ، ومن يقف وراءها ويشجعها، يجب فضحها وتعريتها والتصدّي لها، كونها كرست نفسها للتغطية على أكبر جريمة ارتكبت ضد الشعب العربي الفلسطيني. وهو واجبٌ يقع على عاتق كل عربي حر شريف، ينتمي لشعبه وأمته، ويغار على مصالحها. إنهم لا يخونون فقط الشعب الفلسطيني وحقوقه العادلة، وإنما يخونون الشعب العربي وأمنه واستقراره وحقوقه العربية والإسلامية في فلسطين، ودماء مئات الآلاف من الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل تحرير فلسطين وحماية العرب وصون كرامتهم ومستقبلهم ومستقبل أجيالهم.
avata
avata
علي القزق
علي القزق