لبنان ينتقل من مكافحة الإرهاب لمواجهته... والوقاية مجرّد خطوة

22 نوفمبر 2015
من ساحة تفجيرات الضاحية الجنوبية لبيروت (حسين بيضون)
+ الخط -

بعد 10 أيام على التفجيرين الانتحاريين اللذين ضربا منطقة برج البراجنة (في ضاحية العاصمة اللبنانية بيروت، الجنوبية)، بلغت المحصّلة غير الرسمية لتوقيفات الأجهزة الأمنية اللبنانية 34 موقوفاً (سبعة لبنانيين، 25 سوريّاً وفلسطينيان)، ثبت للمحققين علاقتهم بمجموعات إرهابية ومشاركتهم بأفعال جرمية تنضوي تحت هذه الخانة. وقد تحرّكت الأجهزة هذه المرة بشكل سريع، وكشفت الشبكة التي خططت للتفجير وأعدّته لوجستياً، فتبيّن من خلال البيانات الصادرة عن مختلف القوى الأمنية توقيف مموّلين ومهرّبين ومخططين ومنفذين ومشاريع انتحاريين كانوا جاهزين لتفجير أنفسهم في المناطق اللبنانية، وهم ينتمون لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وأتت التحقيقات اللبنانية السريعة بثمارها بغضون أيام قليلة، مع فعالية أثبتتها المؤسسات الأمنية (فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، الجيش اللبناني وجهاز الأمن العام) في ظرف أمني صعب وسياسي أصعب.

اقرأ أيضاً: تفجيرات ضاحية بيروت تمهّد لتفاهمات سياسية... ومنافسة أمنية بالتحقيقات 

إلا أنّ هذه التوقيفات جاءت بعد وقوع التفجيرين وسقوط 43 قتيلاً وأكثر من 250 جريحاً، أي بعدما كان الأوان قد فات ووقعت المجزرة بالفعل، عكس ما كانت الأحوال عليها في عمليات سابقة تم خلالها كشف خلايا تحضّر لأعمال إرهابية أو ضبط متعاونين كانوا يهرّبون الأموال أو السلاح والمتفجرات إليها. 

يكاد الحديث عن موضوع مكافحة الإرهاب لا ينتهي في مكاتب واجتماعات الضباط المعنيين في الأجهزة الأمنية الثلاثة. تعمل هذه الأجهزة منذ أشهر على ملاحقة الخيوط اللازمة. وفي جردة أمنية بسيطة، تبيّن الأرقام التي أعلنت عنها القوى الأمنية مدى الاهتمام (والقلق في الوقت نفسه) بملف "الإرهاب". وتشير هذه الأرقام الصادرة عن جهاز الأمن العام اللبناني إلى توقيف 32 شخصاً (20 لبنانياً و12 سورياً) بين شهري سبتمبر/ أيلول ونوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وهي توقيفات سبقت الاعتداء الأخير في برج البراجنة. وتراوح التهم الأمنية الموجهة إلى هؤلاء الموقوفين ما بين تأمين الدعم اللوجستي لمجموعات "إرهابية"، والتخطيط لتنفيذ اعتداءات، وإعداد عبوات، وتجنيد عناصر وانتحاريين، وتهريب أسلحة وأموال، وغيرها من التهم، كالاتصال والتواصل والقتال إلى جانب مجموعات سورية على الحدود الشرقية بين لبنان وسورية. وتبيّن من خلال التحقيقات أنّ الجهات المشغّلة هي كل من "داعش"، "جبهة النصرة"، "جيش الإسلام"، كتائب "النور" السلفية وكتائب "عبد الله عزام" (الجناح اللبناني لتنظيم القاعدة).

في المقابل، لم تصدر قوى الأمن الداخلي في بياناتها رقماً دقيقاً لعدد الموقوفين بتهم إرهابية أو شبهات قريبة من هذا الملف الأمني باعتبار أنّ فرع المعلومات، وهو الجهاز المتخّصص بالملفات الأمنية الحساسة، يعتمد عادةً أسلوباً متكتّماً في عملياته. إلا أنّ الرقم الدقيق لعدد التوقيفات بشكل إجمالي بين شهري أكتوبر/ تشرين الأول ومنتصف نوفمبر/ تشرين الثاني، بلغ 1435 موقوفاً، مع الإشارة إلى توقيف ثلاثة متورّطين بجرائم "إرهاب والانتماء إلى منظمات إرهابية وتأليف عصابات، وإثارة الفتن وزعزعة السلم الأهلي". وأشار مصدر أمني لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ فرع المعلومات يُخضع عناصره لدورات تدريبية في "كيفية توقيف الانتحاريين المزودين بأحزمة ناسفة". 

ويشمل هذا التدريب المتخصص تحديد زر التفجير والتمكّن من تأمينه قبل تمكّن الانتحاري المفترض من التفجير، بالإضافة إلى التعرّف إلى أنواع الأحزمة الناسفة المستخدمة وآلية عملها بهدف تعطيلها. ويأتي هذا القرار بعد موت وشيك كاد أن يودي بحياة أربعة عناصر من الفرع كانوا قد أوقفوا أحد الانتحاريين في مدينة طرابلس (شمالي لبنان) قبل ساعات من تفجير الضاحية الجنوبية. مع العلم أنه سبق لحزب الله أن أجرى دورات مماثلة لعناصره في شوارع الضاحية، وذلك بعد موجة التفجيرات التي استهدفت المنطقة بين عامي 2013 و2014. إذ نفّذ الحزب مناورات حيّة وموّثقة بالتسجيلات بهدف الاستفادة القصوى من هذه التدريبات. مع تأكيد مصادر أمنية مطلعة على أنّ الشاب اللبناني عادل ترمس، الذي تمكّن من احتضان الانتحاري الثاني الذي فجّر نفسه في الاعتداء الأخير، هو عنصر أمني في حزب الله سبق وخضع لدورات أمنية من هذه التدريبات.

أما الأرقام غير الرسمية للتوقيفات التي قام بها الجيش اللبناني، فتشكّل نقلة نوعية بالأعداد والتهم على حد سواء، بين العام الجاري والأعوام السابقة. وفي هذا السياق، يشير تسريب أمني لبعض وسائل الإعلام المحلية إلى أنّ محصلة التوقيفات التي نفذتها وحدات وفصائل المؤسسة العسكرية، بين يناير/ كانون الثاني وأكتوبر/ تشرين الأول 2015، بلغت 2030 موقوفاً متّهمون بارتكاب جرائم إرهاب أو جرائم منظمة واعتداءات على أمن الدولة. ومن بين هؤلاء، حدّدت التحقيقات العسكرية 279 موقوفاً في خانة ارتكاب جرائم إرهابية مباشرة، أي القتال والتفجير والخطف والمساعدة في عمليات مماثلة. مع تأكيد الجيش على أنه نتيجة هذه التوقيفات، تم تفكيك مجموعة كبيرة من الشبكات والخلايا المنتمية لـ"داعش" والنصرة وعبد الله عزام، ومجموعات محلية أخرى مثل بقايا مجموعة الشيخ أحمد الأسير (عبرا، جنوبي لبنان)، ومجموعة أسامة منصور وشادي المولوي (طرابلس، شمالي لبنان)، ومجموعة الشيخ خالد حبلص (بحنّين، شمالي لبنان).

في مكاتب الضباط المعنيين بملف الإرهاب، طرأ تحوّل نوعي على النقاشات والخطط الواجب اعتمادها في مواجهة هذا الواقع الجديد. ويقول أحد ضباط قوى الأمن لـ"العربي الجديد"، إن التحوّل هو نتيجة "الانتقال من مسألة مكافحة الإرهاب إلى مواجهته"، مع اعتراف أمني بأنّ "مجموعات الأشرار" (بحسب التعبير القانوني اللبناني، والذي يشمل المجموعات الإرهابية)، باتت ناشطة وموجودة في الداخل اللبناني، وبالتالي على أساليب العمل أن تتبدّل لتتناسب مع هذا الواقع الجديد، فقد انتقلت هذه المجموعات من موقع "عابر السبيل" أو "المراقب" إلى الفاعل، كما يقول المصدر.

ويشير الضابط نفسه إلى أنّ القيادة الأمنية اللبنانية لا تزال في طور تعديل عملها والأساليب المعتمدة، "خصوصاً أنّ دولاً عظمى تعجز عن التعامل مع ملف مماثل على المستوين الأمني والسياسي". فجاءت أحداث باريس الأخيرة، بعد أقلّ من 24 ساعة على تفجيري الضاحية الجنوبية، لتكرّس هذا الواقع وصعوبته.

أوصل هذا الواقع مجموعة من الضباط الأمنيين اللبنانيين إلى قناعة تفيد بأنّ "الحرب الوقائية على الإرهاب لا تشكّل سوى نسبة قليلة من الجهد الذي يبذل على المستويات السياسية والأمنية الأخرى في هذه المواجهة". مع إشارة هؤلاء إلى أنّ بعض العناصر الأساسية من هذه المواجهة لا تزال ضعيفة لدى الأجهزة الأمنية، خصوصاً في مهمّة إحداث خرق أمني لتلك المجموعات، وهو الأمر الكفيل بتسهيل عمل الأجهزة بنسبة تفوق 50 في المائة". كما أنّ هذا الواقع يدفع قادة أمنيين إلى التأكيد على وجوب تكامل المشهد الأمني ضد الإرهاب مع الأجهزة الأمنية الخارجية، من خلال التعاون مع أجهزة أمنية دولية. وهو ما سبق وتمّ أساساً مع مختلف القوى الأمنية اللبنانية والتي تمكنّت في أربع مناسبات من كشف خلايا نائمة أو عناصر تحضّر لاعتداءات وذلك بناءً على معلومات أتت من خلف البحر المتوسط.

سبق لوزير الداخلية، نهاد المشنوق، وغيره من السياسيين أنّ أكدوا على وجوب أن يدفع تفجيرا الضاحية الأطراف السياسية إلى التسريع في عملية الخروج من الأزمة الدستورية التي يمرّ بها لبنان منذ الشغور الرئاسي (مايو/ أيار 2014). وتماماً هذا ما حصل، بفعل التلاقي الكلامي بين الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وزعيم تيار المستقبل، سعد الحريري، اللذين أكدا على ضرورة التوصل إلى تسوية محلية عامة بغض النظر عن الحرب الدائرة على المستوى الإقليمي: انتخابات رئاسية، فقانون انتخابي وانتخابات نيابية واستعادة للحياة الدستورية المعطلة. يبدو أنّ القيادات اللبنانية فهمت بأنّ الساحة اللبنانية قد تتحوّل إلى ساحة للتفجير، بعدما كانت منذ بدء الثورة السورية مقسومة إلى محميّات سياسية لمختلف الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة.

اقرأ أيضاً: تفاؤل بحلّ الأزمة السياسية بلبنان ينتظر ترجمته في الواقع 

المساهمون