لبنان يبحث عن مفقوديه

17 نوفمبر 2018
+ الخط -
كان لبنان، يوم الإثنين الماضي، على موعد مع إقرار قانون المفقودين قسراً في الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990). قانون ناضل من أجله كثيرون من ذوي المفقودين، وأشخاصٌ كثر، عقوداً طويلة، منذ الثمانينات. قانون يفترض أن يعالج ملفات نحو 17 ألف مفقود في الحرب، غير معروف مصيرهم. وعملياً، تُعتبر هذه الخطوة، الأولى من نوعها منذ انتهاء الحرب، وعلى الرغم من أنها قد لا تعوّض فداحة قانون العفو العام، الصادر عام 1992، الذي عفا عن كل مجرمي الحرب وأمرائها ومليشياتهم، إلا أنها تبقى بصيص أملٍ لطيّ إحدى أكثر القضايا إنسانية في تاريخ لبنان منذ استقلاله في عام 1943.
يمكن اعتبار أن مضيّ 28 عاماً على انتهاء الحرب نقطة سلبية في سبيل تطبيق القانون، فمجرمون كثيرون هربوا أو توفوا أو أصبحوا في مواقع السلطة. قليلون منهم قد يُحاسَبون إذا تمّ إيجاد دلائل دامغة على ربطهم بجرائم، ويعوّل كثيرون منهم على "إيجاد" الضحية فقط من دون المحاسبة. مع العلم أن المادة 37 من القانون نصّت على "كل من أقدم بصفته محرّضاً أو فاعلاً أو شريكاً أو متدخلاً في جرم الإخفاء القسري يعاقب بالأشغال الشاقة من خمس سنوات إلى خمس عشرة سنة، وبالغرامة من خمسة عشر مليون ليرة لبنانية (10 آلاف دولار) حتى عشرين مليون ليرة لبنانية (13266 دولاراً)". السؤال الأكثر أهمية: هل تُطبّق على مجرم أو أمير حرب، إذا ثبت تورّطه بالإخفاء القسري، مفاعيل القانون الجديد، أو أن أفعاله مرتبطة حكماً بقانون العفو؟ هذا ما يجب أن يتبيّن لاحقاً، خصوصاً أن سير عمل لجنة الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً يجب أن يكون فاعلاً وسريعاً، لا أسير البيروقراطية اللبنانية المملّة. وفي بلد مثل لبنان، فإن التحدّي الأكبر يتمثّل في مدى القدرة على الوصول إلى أعلى المستويات من المحاسبة، ثم تطبيقها.
هذا في ما يتعلق بالمفقودين، وفي قضيتهم تحديداً، والتي يُمكن وصفها بأنها القضية التي تجمع ضحايا الحرب من كل الأطراف. الأم أم، سواء كانت من الطوائف الإسلامية أو المسيحية. الحزن لا يعرف طائفة ولا مذهباً ولا فصيلاً سياسياً ولا تنظيماً مليشياوياً. لبنان أصغر مما يتخيّل بعضهم، لكنه مقبرة واسعة لأبنائه. لا يمكن رمي كل محاولات التهرّب من المحاسبة والتلطي بقانون العفو العام على قانون "المفقودين قسراً"، بل يجب، وفي بلاد عليها غصباً عنها احترام إنسانها، أن يتحوّل الأمر إلى محاسبة من تورّط بدماء الناس في لبنان. لا قضية مقدسة في حرب لبنان، بل عبثية مطلقة، أفضت إلى تكريس سطوة المافيات، استناداً إلى المخدّرات وتبييض الأموال. تقاسم الجميع قميص المفقودين والضحايا. يدرك المحاربون في هذه الحرب ذلك. منهم من لاذ بالصمت، ومنهم من انكفأ، وعدد ممن ترونهم اليوم على المنابر هم ممن لم يتمكّنوا من فرض "وجودهم الشارعي" في الحرب، أو من جيلٍ جديد يبحث عن الظهور أو الشهرة.
يقول أسعد شفتري، وهو الذي كان منتمياً إلى مليشيا القوات اللبنانية ـ جناح إيلي حبيقة، في كتابه "الحقيقة ولو بصوتٍ يرتجف" الصادر عام 2016: "يسهل ارتكاب الشواذات، مستندين إلى آلة عسكرية وأمنية تنفّذ الأوامر الصادرة إلى عشرات الرجال أو الخلايا. ولكن، يصعب تصحيح الأخطاء، ولا سيما عندما يجد المرء نفسه وحيداً بعد حادثٍ عنيفٍ أوٍ حربٍ أهلية. من المؤلم تحمّل المسؤولية فردياً. ولكن لا مفرّ من ذلك. كم من ضحايا وقعوا بسببي؟ كم من الأشخاص تعذّبوا بسببي؟ كم من نفسٍ أفسدتها اضطراباتي؟ فلم تتوخّ أيّ من خططي المحبة أو التعاطف أو التسامح أو الحياة، بل كانت جميعها مشحونةً بالازدراء والكراهية والعقاب والموت". يصحّ كلام شفتري على كل من تورّط بقضية المفقودين.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".