04 نوفمبر 2024
لبنان وطوارئ ما قبل الانهيار الاقتصادي
يبدو أن رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، الذي لا يتفاءل بإمكانية تعافي اقتصاد بلاده سوى عندما يستدين مليارات الدولارات من الصناديق الدولية، ولا يعلن خطط الإصلاح سوى بدفع منها، يبدو أنه يعمل، في هذه الأيام، على إعلان الفشل على الصعد كافة، عبر إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية، علّه يُنقذ ما يمكن إنقاذه قبل انهيار البلاد اقتصادياً. وعلى الرغم من أنه، في كل مرة، يتلقَّى فيها من الدائنين الوصفة الكفيلة بوضع الاقتصاد اللبناني على سكّة التعافي، أي الوصفة المتعلقة بمحاربة الفساد والحد من الهدر، إلا أنه لا يعمل وفقها، معتقداً أن الإستدانة هي الوصفة الوحيدة الكفيلة بإيصال اقتصاد البلاد إلى مرحلة التعافي.
خرج الحريري، قبل أيامٍ، من الاجتماع الذي ضمه ورئيس الجمهورية ووزراء وسياسيين ومشرِّعين اقتصاديين في قصر بعبدا الرئاسي، متحدثاً أنه سيتم إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية. وقال إنه ستجرى إصلاحات تتضمن خفض عجز الكهرباء والتوقف عن التوظيف في القطاع العام والنظر في قانون التقاعد ودمج شركات متعثرة وتابعة للقطاع العام وإلغاء عدد منها (أي تخصيصها) خلال ثلاثة أشهر. وكشف وزير الاقتصاد عن أبرز عناوين مرحلة الطوارئ الاقتصادية، منها التوجه نحو تجميد زيادة الرواتب والأجور ثلاث سنوات، وزيادة الحسومات على الرواتب التقاعدية ورفع نسبة ضريبة القيمة المضافة على السلع المدرجة ضمن بند الكماليات، وزيادة الضريبة على فوائد الودائع في البنوك، والعمل على لجم التهرّب الضريبي ومكافحة التهريب، وإقرار نظام ضريبي يعتمد الضريبة التصاعدية على الدخل، وهو ما يشكّك في صحته كثيرون، لأنه يمكن أن يطاول الطبقة الأكثر ثراءً، وهذا خطٌّ أحمر ممنوع تجاوزه في لبنان.
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها سعد الحريري طمأنة اللبنانيين، والظهور فيها بمظهر الإصلاحي، إذ فعل ذلك حين شكَّل الحكومة اللبنانية الجديدة، في فبراير/ شباط الماضي. يومها
جاء التشكيل ثمرة توافق جميع الأطراف والأفرقاء اللبنانيين. وهو توافقٌ أرادوا منه أن يكون عامل إنجاح للحكومة، من أجل وقف حال التردّي التي أصابت كل مرافق لبنان، وجعلته يشرف على الانهيار. وعلى الرغم من أن تشكيل الحكومة تأخَّر عشرة أشهر بعد تلقي الحريري التكليف من رئيس الجمهورية، ميشال عون، إلا أن الجميع ابتهجوا بذلك، مطلقين الألعاب النارية احتفالاً، على أمل أن تكون بارقة أمل تعيد التفاؤل لأبناء الشعب الذي أوصله زعماء طوائفه إلى اليأس. ولكن رئيس الحكومة جاء خاليَ الوفاض، فاقداً أي مشروعٍ لافتٍ، يكون على مستوى المأمول، بل على العكس انتهج سياسة الاقتراض ذاتها التي شلَّت اقتصاد البلاد وأفلَسَتْها ورهَنَتْها للبنوك الخارجية.
وغيْر مشروع مكافحة الفساد الذي تنطَّع إلى الدعوة إليه، والتغنّي به في جوقةٍ انضم إليها بشكلٍ متزامن جميع أقطاب السلطة وأمراء الطوائف في لبنان، عشية تشكيل الحكومة، ثم توقفوا عن التداول به فجأة، لم يأتِ الحريري سوى بوعود المليارات عبر "مؤتمر سيدر" الدولي للمانحين الدوليين في باريس، في 6 إبريل/ نيسان الماضي. وستزيد هذه القروض أعباء لبنان المالية، وتُدخل اقتصاده في حال غموض الوجهة، وضبابية الطريق، بسبب ثقل القروض الممنوحة التي قاربت 12 مليار دولار، وبسبب إرث الفشل في تطبيق الإصلاحات المطلوبة التي اشترطها المانحون. ولم تعمل الحكومة جديّاً على مكافحة الفساد ووقف الهدر في القطاع العام خلال فترة الأشهر الثمانية التي أعقبت تشكيلها، والتي قال الحريري إنها الفترة المخصصة لمكافحة الفساد وتخفيض النفقات. وكان هذا الكلام مجرَّدَ كلامٍ، ورسالة للدائنين المطالبين بالإصلاح قبل الموافقة على منح المبالغ التي طلبها لبنان خلال المؤتمر.
تفيد فترة الثمانية أشهر من عمر الحكومة اللبنانية الجديدة بأن نداء "إلى العمل" الذي أطلقه رئيسها بعد تشكيلها لم يستجب إليه أحد، لا هو ولا أيّ من أقطاب السلطة، وإلا لماذا كان وصل الأمر بالحريري إلى إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية هذه. ولذلك لا يعدو هذا الإعلان أن يكون اعترافاً بالأزمة التي تعانيها البلاد، من دون العمل الجدي لحلها، لأن أفرقاء السلطة الذين توافقوا على إعلان حالة الطوارئ لم يَدعوا أصحاب الشأن، من النقابات وممثلي الشعب، لمناقشة هذا الأمر معهم، كون المشكلة تمسّ الجميع. كما تحمل الإجراءات التي ستتضمنها خطة الطوارئ في رحمها عوامل فشلها؛ فعلى سبيل المثال، يُعدُّ التوظيف في القطاع العام ورقةً دائمةَ الربح بيد السياسيين اللبنانيين وأمراء الطوائف، يستغلون بها أبناء طوائفهم ومحازبيهم عبر وعودهم بتأمين فرصة عمل فيه مقابل الولاء الأبدي لهم ولأولادهم من بعدهم، ولا يمكن لهم إفلات هذه الورقة بالسهولة التي يظنّها من يصدق مشاريعهم.
وعلى عكس الخطط الإنقاذية التي تعتمد على إقرار تنفيذ المشاريع الإنتاجية ضمن بنودها،
ركَّزت خطة الطوارئ على الإجراءات التي تعتمد الانقضاض على ما تبقّى من مكاسب حصل عليها أبناء الشعب اللبناني خلال نضالهم الطويل، في ظل نهج الدولة الذي يعتمد نظامها اقتصاد السوق، فلا يقيم للعاملين فيه وحقوقهم وزناً. وبدلاً من اعتماد خطةٍ لخفض الدين العام، تخفيضاً للأعباء، تُسابق الحكومة الزمن للفوز بالقروض التي أقرّها "سيدر"، ما يساهم في زياد الدين العام المتضخم أساساً بسبب فشل الحكومات المتعاقبة في الإيفاء بالتزاماتها لخدمة هذا الدين. وربما كان هذا هو السبب الذي جعل وكالة فيتش الدولية للتصنيف الائتماني تخفض تصنيف لبنان الائتماني نهاية شهر أغسطس/ آب الماضي. واعتماداً على استجابة الحريري للوكالات الدولية، وانطلاقه في الإعلان عن الإصلاحات بدافع منها، يمكن استنتاج أن هذا التصنيف هو ما دفع حكومته إلى تبنّي خطة طوارئ اقتصادية، أملاً في تحسين الأوضاع في البلاد، وبالتالي تلقي القروض الموعودة.
يعود سبب الفشل الدائم الذي يعاني منه لبنان، وأدّى إلى أزماتٍ أصابت المجتمع والدولة برمتها، وأفضت إلى حربين أهليتين، وإلى سلمٍ أهليٍّ هشِّ قابلٍ للتحول إلى حربٍ أهلية، إذا ما اندلع نزاعٌ بين جارين في قريةٍ مختلطة طائفياً، يعود السبب إلى طبيعة هذا النظام الذي يتعامل مع المواطنين بحسب انتمائهم الطائفي، وولائهم لزعماء طوائفهم ومؤسساتها، لا لوطنهم ومؤسساته. واعترف كثيرون من فرقاء السلطة والزعماء في لبنان بالفشل، وحذّروا من أن الفساد يمكن أن يقود إلى انهيار البلاد، لكنهم يمتنعون عن الاتفاق على حلٍّ لأيٍّ من أزماته، كأزمة الكهرباء التي يمنع التجاذب بين أقطاب السلطة إقرار خطة حلها.
وسّعت الحكومة اللبنانية شعاع المجالات التي ستعالج الخلل فيها، من أجل السير على سكة الإصلاح الاقتصادي، ولكن هذه الحكومة وأقطاب النظام اللبناني الذين صوّبوا سهامهم نحو الفساد قبل أشهر، لم يعلنوا عن قضية فساد واحدة، ولم يقدّموا فاسداً للقضاء. لذلك، ليس مأمولا أن ينتهجوا نهج الإصلاح ومحاربة الفساد، بعد الدعوات الدولية التي تلقوها لفعل ذلك ولم يفعلوا. وعليه، لا ينتظر المواطن اللبناني الذي درَجَ على ألا يلمس تغييراً نحو الأفضل من هذه الحكومة أن تقدِّم له ما يسرّه، فما بالك به وهي تخطط لتقليل مكتسباته القليلة المتبقية له.
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها سعد الحريري طمأنة اللبنانيين، والظهور فيها بمظهر الإصلاحي، إذ فعل ذلك حين شكَّل الحكومة اللبنانية الجديدة، في فبراير/ شباط الماضي. يومها
وغيْر مشروع مكافحة الفساد الذي تنطَّع إلى الدعوة إليه، والتغنّي به في جوقةٍ انضم إليها بشكلٍ متزامن جميع أقطاب السلطة وأمراء الطوائف في لبنان، عشية تشكيل الحكومة، ثم توقفوا عن التداول به فجأة، لم يأتِ الحريري سوى بوعود المليارات عبر "مؤتمر سيدر" الدولي للمانحين الدوليين في باريس، في 6 إبريل/ نيسان الماضي. وستزيد هذه القروض أعباء لبنان المالية، وتُدخل اقتصاده في حال غموض الوجهة، وضبابية الطريق، بسبب ثقل القروض الممنوحة التي قاربت 12 مليار دولار، وبسبب إرث الفشل في تطبيق الإصلاحات المطلوبة التي اشترطها المانحون. ولم تعمل الحكومة جديّاً على مكافحة الفساد ووقف الهدر في القطاع العام خلال فترة الأشهر الثمانية التي أعقبت تشكيلها، والتي قال الحريري إنها الفترة المخصصة لمكافحة الفساد وتخفيض النفقات. وكان هذا الكلام مجرَّدَ كلامٍ، ورسالة للدائنين المطالبين بالإصلاح قبل الموافقة على منح المبالغ التي طلبها لبنان خلال المؤتمر.
تفيد فترة الثمانية أشهر من عمر الحكومة اللبنانية الجديدة بأن نداء "إلى العمل" الذي أطلقه رئيسها بعد تشكيلها لم يستجب إليه أحد، لا هو ولا أيّ من أقطاب السلطة، وإلا لماذا كان وصل الأمر بالحريري إلى إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية هذه. ولذلك لا يعدو هذا الإعلان أن يكون اعترافاً بالأزمة التي تعانيها البلاد، من دون العمل الجدي لحلها، لأن أفرقاء السلطة الذين توافقوا على إعلان حالة الطوارئ لم يَدعوا أصحاب الشأن، من النقابات وممثلي الشعب، لمناقشة هذا الأمر معهم، كون المشكلة تمسّ الجميع. كما تحمل الإجراءات التي ستتضمنها خطة الطوارئ في رحمها عوامل فشلها؛ فعلى سبيل المثال، يُعدُّ التوظيف في القطاع العام ورقةً دائمةَ الربح بيد السياسيين اللبنانيين وأمراء الطوائف، يستغلون بها أبناء طوائفهم ومحازبيهم عبر وعودهم بتأمين فرصة عمل فيه مقابل الولاء الأبدي لهم ولأولادهم من بعدهم، ولا يمكن لهم إفلات هذه الورقة بالسهولة التي يظنّها من يصدق مشاريعهم.
وعلى عكس الخطط الإنقاذية التي تعتمد على إقرار تنفيذ المشاريع الإنتاجية ضمن بنودها،
يعود سبب الفشل الدائم الذي يعاني منه لبنان، وأدّى إلى أزماتٍ أصابت المجتمع والدولة برمتها، وأفضت إلى حربين أهليتين، وإلى سلمٍ أهليٍّ هشِّ قابلٍ للتحول إلى حربٍ أهلية، إذا ما اندلع نزاعٌ بين جارين في قريةٍ مختلطة طائفياً، يعود السبب إلى طبيعة هذا النظام الذي يتعامل مع المواطنين بحسب انتمائهم الطائفي، وولائهم لزعماء طوائفهم ومؤسساتها، لا لوطنهم ومؤسساته. واعترف كثيرون من فرقاء السلطة والزعماء في لبنان بالفشل، وحذّروا من أن الفساد يمكن أن يقود إلى انهيار البلاد، لكنهم يمتنعون عن الاتفاق على حلٍّ لأيٍّ من أزماته، كأزمة الكهرباء التي يمنع التجاذب بين أقطاب السلطة إقرار خطة حلها.
وسّعت الحكومة اللبنانية شعاع المجالات التي ستعالج الخلل فيها، من أجل السير على سكة الإصلاح الاقتصادي، ولكن هذه الحكومة وأقطاب النظام اللبناني الذين صوّبوا سهامهم نحو الفساد قبل أشهر، لم يعلنوا عن قضية فساد واحدة، ولم يقدّموا فاسداً للقضاء. لذلك، ليس مأمولا أن ينتهجوا نهج الإصلاح ومحاربة الفساد، بعد الدعوات الدولية التي تلقوها لفعل ذلك ولم يفعلوا. وعليه، لا ينتظر المواطن اللبناني الذي درَجَ على ألا يلمس تغييراً نحو الأفضل من هذه الحكومة أن تقدِّم له ما يسرّه، فما بالك به وهي تخطط لتقليل مكتسباته القليلة المتبقية له.