أزمة المياه اجتاحت بيوت اللبنانيين. لا مياه شرب ولا مياه استخدام. وبيروت التي يسبح سكانها كل شتاء بمياه الأمطار، نتيجة تعاسة البنية التحتية، تلهث حالياً خلف موزعي المياه لتشتري بعضاً مما غرقت به شوارعها طوال الأشهر الماضية.
اما الحكومة والبرلمان اللبنانيان، فيعيشان في عالم آخر. لا شكوى تصل الى مسامعهم ولا خبر. يعتلون المنابر، يعلنون عن خطط في الهواء، ويعودون الى منازلهم استعداداً لخطبهم المقبلة.
الأرقام أقوى من الكلام. في العام 2011، اعلنت وزارة الطاقة والمياه أن لبنان يهدر 48 في المائة من مياهه، في حين أن 50 في المائة من شبكات توزيع المياه الى المنازل تعاني الاهتراء. أما مؤسسات المياه الرسمية فتعاني من شغور في عدد موظفيها يصل بالمتوسط الى 67 في المئة.
برغم فداحة الأرقام، إلا أن أحداً لم يتحرك قبل اليوم ليجد علاجاً ناجعاً لأزمة المياه. 12 وزيراً تعاقبوا على وزارة الطاقة والمياه منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وكل منهم عرض خطة مائية. مليارات الدولارات صرفت على تحسين قطاع المياه. لا خطط نفذت، ولا نفقات أظهرت جدواها.
اليوم، لبنان يعاني العطش بسبب قلة المتساقطات خلال فصل الشتاء هذا العام. المواطنون يخضعون لمافيات مياه التعبئة، يصرفون بالحد الأدنى 107 دولارات شهرياً لكي يشربوا. ولا أحد يتحرك.
تناقض التصريحات الرسمية
منذ أيام، أعلن رئيس لجنة الأشغال والمياه النائب محمد قباني "نحن بحاجة الى إعلان حالة طوارئ فعلية لمواجهة كارثة انقطاع المياه. لدينا جفاف قوي، وتأخرنا 4 أشهر، ولكن لدينا شهر او شهر ونصف الشهر لكي نحضّر أنفسنا بشكل جدي لهذه الأزمة".
واقترح قباني "استيراد المياه"، معتبراً أن المصدر الأساسي لذلك "هو تركيا"، وأضاف: "تحدثت مع السفير التركي، حول هذا الموضوع".
مدهش فعلاً ما أعلن عنه قباني حسب البعض، خصوصاً حين العودة الى تاريخ 5 أبريل/نيسان الماضي. حينها، أعلن وزير الطاقة والمياه السابق جبران باسيل أنه بحث مع وزير الطاقة والتجارة والصناعة والسياحة القبرصي موضوع المياه وإمكانية شراء قبرص للمياه اللبنانية من السدود اللبنانية المنشأة وإمدادات الخطوط المائية باتجاهها.
هنا يقع التناقض العجيب، اذ كيف يطالب رئيس لجنة المياه النيابية باستيراد المياه من تركيا، في حين أن وزير الطاقة والمياه اللبناني قد اعلن قبل أشهر عن قدرة لبنان على تصدير المياه؟
ويمكن الرجوع الى تاريخ أبعد، أي الى مارس/آذار من العام 2008. حينها أعلنت وسائل الاعلام القبرصية عن منحة مائية سيقدمها لبنان الى قبرص التي كانت تعاني وقتها من الجفاف. وقد ذكرت وسائل الإعلام، أن وزير الطاقة والمياه آنذاك محمد الصفدي وعد قبرص بمنحها 105 ملايين متر مكعب من المياه سنوياً، وذلك مكافأة لها على إجلاء مواطنين لبنانيين خلال حرب تموز في العام 2006.
في موازاة ذلك، انطلقت هذا العام حملة يقف خلفها كبار المتمولين في لبنان، لدعم مشروع اسمه "بلو غولد"، وهو مشروع يدعو الى خصخصة جزء من قطاع المياه، وترافق المشروع مع حملة دعائية ضخمة سوقت لأرقام غير علمية، عن امكان لبنان تخزين كميات من المياه في حال تم السير بهذا المشروع.
تحضير لخصخصة القطاع
يقول أحد العاملين في مؤسسة المياه في بيروت وجبل لبنان لـ"العربي الجديد" إن أزمة المياه في لبنان حقيقية. فقد أدت قلة المتساقطات هذا العام الى انخفاض كميات المياه المتوافرة في الآبار الجوفية "الكميات الموجودة حالياً في الآبار، تكون عند هذا المستوى الشحيح في نهاية الصيف وليس في بدايته". ويلفت الى أن المؤسسة تعمل على حفر آبار جديدة منذ 3 أشهر، وقد وصل هذا المشروع الى خواتيمه، وبالتالي يمكن أن تنتهي الأزمة سريعاً.
إلا أن احد المطلعين على قضية المياه في لبنان، يشرح لـ"العربي الجديد" أن ما يحدث حالياً في القطاع ليس سوى تضخيم للأزمة من أجل خصخصة المياه. ويلفت الى أن أزمة المياه تتكرر في كل عام، وباستطاعة الحكومات المتعاقبة السير بحلول عبر مشاريع كثيرة، منها وقف هدر المياه وصولاً الى الانتهاء من مشروع بناء السدود المائية. إلا أن عدم القيام بهذه الاجراءات يهدف الى تعظيم الكارثة لبيع القطاع بأبخس الأثمان.
وتأتي محاولات الخصخصة من ضمن سياسة تضعف مؤسسات المياه الحكومية الاربع العاملة على الأراضي اللبنانية.
ويردد أحد المسؤولين في شركة مياه حكومية، أن عدد الوظائف الشاغرة في مؤسسات المياه أصبح أكثر من صادم، إذ يتواجد في لبنان 4 مؤسسات رسمية يصل فيها حجم الشغور في الوظائف بين 50 و75 في المائة.. ما يترك المؤسسات الى مصير مجهول، مع تدنّ في حجم جباية فواتير المياه من المواطنين، وتراجع في عدد الاشتراكات الشهرية.
لا خطط ولا من يشربون
ويقول الخبير اللبناني في قطاع المياه محمد فواز، لـ"العربي الجديد"، إن ما يمر به لبنان اليوم استثنائي، اذ وصلت كمية المتساقطات هذا العام الى نصف الحجم الذي حققته خلال الاعوام الماضية، ما يعني تراجع منسوب المياه في الآبار الجوفية، وتراجع دفق المياه في الينابيع والأنهر.
ويستغرب فواز الحديث عن استيراد المياه من تركيا، لافتاً الى أنه يوجد حلول اخرى، إذ إن ما مر به لبنان لم يكن خفياً وكان من المفترض القيام ببرنامج فعلي لضبط الهدر، لا الاكتفاء بالحديث عن الهدر والخطط المائية في وسائل الاعلام فقط.
ويشرح فواز أن لبنان لن يموت من العطش، ولكنه سيعاني شحاً شديداً في المياه خلال الأشهر المقبلة، وبذلك، لا بد من تغيير السلوك الاستهلاكي وترشيد الاستخدام والانطلاق بسياسة تقشف مائي حقيقية.
ويلفت فواز الى أن الطيران الالماني قصف خط امداد مائي أساسي يوصل المياه الى لندن، حينها طلبت السلطات البريطانية من سكان لندن توفير 40 في المئة من الاستهلاك اليومي للمياه، في اليوم التالي استطاعوا توفير 60 في المئة من الاستهلاك.
ومن جهة أخرى، يشرح فواز أن كمية كبيرة من مياهنا تذهب الى البحر من دون استغلالها وخصوصاً مياه نهر الليطاني، ومياه نهر العاصي التي تذهب خارج الحدود اللبنانية، والمياه الجوفية غير مستثمرة.. وبالتالي لا بد من القيام بخطة مائية طارئة بدلاً من الحديث عن الاستيراد، لأن لبنان لم يستثمر كل ثروته المائية.
المياه غير الرسمية
في ظل واقع سيئ يمر به قطاع المياه الرسمي، وسط الاهمال والتراخي في القيام بخطوات اصلاحية عاجلة، نمت على ضفاف الأزمة المائية شبكة من شركات المياه، لتجني أرباحاً مهولة من انقطاع المياه الرسمية، ولتطرح أسئلة عن سبب عدم قيام البلديات المحلية بتوزيع المياه التي يمتلكها كل الشعب اللبناني مجاناً بدلاً من الشركات الخاصة.
في لبنان مئات الشركات التي تقوم بتوزيع المياه للمنازل في فترات شح مياه الدولة. هذه الشركات لا تخضع لأي نوع من الرقابة على نوعية المياه الموزعة، كما يستخدم معظمها شاحنات يأكلها الصدأ لنقل المياه وتفريغها في خزانات المنازل.
واضافة الى الموزعين، يقوم عدد من المتنفذين التابعين لأحزاب سياسية وازنة في البرلمان والحكومة، بحفر آبار غير شرعية، وبيع المياه الى الموزعين من دون خضوع آبارهم لأي نوع من الرقابة.
وفي الحصيلة تتفاوت كلفة المياه المعبأة بين شركة خاصة وأخرى، ضمن المساحة الجغرافية ذاتها.
وفي جولة لـ"العربي الجديد" على أسعار عدد من الشركات العاملة في نطاق بيروت، يتبين أن سعر الألف ليتر من المياه يتفاوت بين شركة وأخرى بين 25 و60 ألف ليرة لبنانية (بين 17 و40 دولاراً) في حي واحد من أحياء بيروت.
والمياه التي يتم تمديدها من مؤسسات المياه الرسمية تقل اسعارها بشكل مخيف، إذ تبلغ كلفة الاشتراك بالمياه حوالي 296 ألف ليرة لبنانية (197 دولاراً) سنوياً، ويحصل المواطن بالمقابل على حوالي ألف ليتر من المياه يومياً، أي 365 ألف ليتر سنوياً. وبذلك، يكون سعر الـ 1000 ليتر حوالي 50 سنتاً أميركياً فقط.
ويلفت أحد موزعي المياه إلى أن عدداً من المتنفذين يحفرون آباراً في مناطق الكوكودي والمدينة الرياضية وحي السلم في بيروت، ويقومون ببيع هذه المياه من دون مساءلة ولا محاسبة وتحت أعين الامن والدولة.
ويلفت موزع آخر إلى أن شركات توزيع المياه كانت تحصل على رخص من وزارة الزراعة، على أنها شركات زراعية، ومنذ خمس سنوات أصبحت تسجل نفسها على أنها شركات تجارية، لكن مياهها لا تخضع لأي نوع من الرقابة الصحية.