لم تبرز أي تغيرات جوهرية في خطابي جعجع والجميل بعد عودتهما من السعودية، بعكس بعض التوقعات التي اعتبرت أن الزيارات ستنعكس بشكل مباشر وسريع على تصريحات الرجلين وعلى مواقفها السياسية التي استمرت بنفس الوتيرة.
وعلى الرغم من أن مدة الأسبوعين الفاصلين بين الزيارات قصيرة، إلا أنها شهدت سلسلة تطورات في ملف العلاقات السعودية - اللبنانية، أهمها تدشين القائم بالأعمال السعودي في لبنان، الوزير المفوّض وليد البخاري، وسفير دولة الإمارات العربية المتحدة حمد الشامسي، لجادة الملك سلمان في مدينة طرابلس شمالي لبنان. ويضاف إلى ذلك استمرار الهجوم الحاد المتبادل بين حزب الله والمملكة ممثلة بوزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان خصوصاً.
وقد شكلت مناسبة تدشين الجادة الطرابلسية التي استبدلت اسم رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد، باسم الملك السعودي الحالي، رافعة سياسية للوزير السابق ريفي الذي خصّه الدبلوماسيان السعودي والإماراتي بزيارة إلى منزله. لكن طموح ريفي بتسجيل نقطة سياسية على رئيس الوزراء سعد الحريري، توقف عندما سحب الوزير السعودي المفوض يده من يد ريفي عندما حاول الأخير اقتناص صورة "النصر" وهو يتوسط البخاري والشامسي. ويعود الخلاف بين الحريري وريفي إلى إدارة الصراع الداخلي مع حزب الله، واتهام ريفي للحريري بتقديم التنازلات المتكررة للحزب. في المقابل يتهم الحريري ريفي بمحاولة منافسته على "إرث الرئيس الشهيد رفيق الحريري السياسي". وقد انعكس الخلاف فوزاً للائحة التي دعمها ريفي في الانتخابات البلدية في طرابلس العام الماضي، على حساب لائحة مدعومة من معظم القوى السياسية الكبرى في طرابلس ومعهم الحريري. كما يؤسس ريفي لتيار سياسي واسع الانتشار في مختلف المناطق ذات الأغلبية السنية في لبنان تمهيداً لخوض الانتخابات النيابية المقبلة في مواجهة الحريري. وهي الانتخابات التي تتابعها السلطات السعودية وتترقب نتائجها انطلاقاً من دور لبنان المفترض في الصراع الأميركي - السعودي مع إيران. وذلك على الرغم من الموقف الواضح الذي عبّر عنه رئيس الحكومة خلال مقابلة مع صحيفة إيطالية مطلع الأسبوع الحالي عندما فضّل تحييد لبنان عن خلافات الدول الكبيرة. وهو الموقف الذي أتبعه مباشرة بدعوة إيران إلى أداء دور إيجابي في المنطقة.
ولم يمنع هذا الموقف ولا مواقف سابقة، حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله، من مواصلة استهداف السعودية في مختلف المناسبات. ولم يفوّت نصر الله خطاب تأبين أحد قادته العسكريين الذين قتلوا في سورية، لوصف وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان بـ"الزعطوط"، أي الشخص الكبير الذي يتصرف كالأطفال. تسمية تنعكس على نظرة الحزب وموقفه من مختلف السياسات السعودية في المنطقة، والتي تشتبك فيها إيران وخلفها الحزب مع السعودية في لبنان وسورية والعراق واليمن. ومن المتوقع أن تشهد لقاءات ريفي وجنبلاط في السعودية استعراضاً للمواقف من تطورات المنطقة، إلى جانب الوضع الداخلي في لبنان.
"قواسم مشتركة"
وبعد وقت قصير على إعلان إحدى الصحف المحلية في لبنان أن جنبلاط قصد السعودية أمس الأربعاء، نفى جنبلاط بطريقة ساخرة توقيت الزيارة مشيراً إلى أنه "في البيت وفي فترة نقاهة وتأمل وأستمع إلى تلك التصريحات الأشبه بالدرر السندسية". وقد أكدت مصادر سياسية لبنانية أن زيارة جنبلاط إلى السعودية مؤكدة، لكن لم يحدد توقيتاً لها. واللافت في تزامن الحديث عن زيارة ريفي وجنبلاط إلى المملكة هو التباين السياسي القائم بينهما وبين الرئيس الحريري لأسباب تختلف في التفاصيل وتجتمع على الاعتراض على إدارة الحريري لدفة العلاقة مع "حزب الله" وحلفائه بعد التسوية السياسية التي قضت بانتخاب ميشال عون رئيساً مقابل عودة الحريري إلى منصب رئاسة الحكومة مطلع العام الحالي. وهو نفس حال بعض الشخصيات الأساسية في "تيار المستقبل" ولا سيما وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي سجل طوال الأشهر الماضية سلسلة مواقف تقدّمت على مواقف الحريري نفسه، تجاه تصرفات وزير الخارجية جبران باسيل، ومن ضمنها لقاؤه وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن الفريق اللصيق بالحريري كان يسارع دوماً إلى التقليل من أثر مواقف المشنوق، وإعادة التأكيد على بنود التسوية. وهو ما عبّرت السعودية عن رفضها له بلسان الوزير السبهان الذي واصل استهداف "حزب الله"، مع مواصلة استقبال المسؤولين السياسيين المعارضين للحريري (على اختلاف درجات التعارض) وحلفائه الذين باتوا أكثر تعبيراً عن وجهة النظر السعودية في لبنان من الحريري الذي يحمل الجنسية السعودية إلى جانب اللبنانية، ومنهم سمير جعجع.
ومع محاولة العهد السعودي الجديد إعادة الانتظام إلى العلاقات السياسية مع القوى اللبنانية التقليدية (جعجع والجميل وجنبلاط) والمستجدة (كأشرف ريفي)، تقف التسوية السياسية اللبنانية كعامل معاكس لمحاولة السعودية تفعيل الجبهة السياسية اللبنانية ضد حزب الله، بسبب شبكة التحالفات المعقدة التي ارتبط بها معظم حلفائها اللبنانيين بحلفاء حزب الله. وهي تحالفات تجمع السياسية بالطائفية والمصالح المالية. مع العلم أن السعودية أدت دوراً بارزاً ومباشرا في إنجاز التسوية، قبل أن تدرك أنها ساهمت في تعزيز الموقف السياسي الداخلي لحزب الله في البلاد.
وكانت المرحلة اللاحقة لزيارة جعجع والجميل إلى السعودية، قد شهدت إعلان وسائل إعلامية محلية عن زيارات عديدة لشخصيات سياسية إلى المملكة، كوليد جنبلاط وفارس سعيد. وقد نفى كلا الرجلين حدوث الزيارة بطريقة ساخرة، وقال سعيد إنه يلعب ورق الشدّة في قريته (قرطبا) وليس في السعودية. كما أصدر وزير الداخلية نهاد المشنوق نفياً لتلقيه أي دعوة لزيارة السعودية، علماً أن اسمه لم يكن قيد التداول الإعلامي أساساً من ضمن الزوار المُحتملين للمملكة. ووضع مراقبون نفي المشنوق في إطار تمنيه أن تضم السعودية اسمه إلى قائمة المدعوين.