لبنان "دولة عدوة" للسعودية... ماذا ينتظره؟

08 نوفمبر 2017
صور الحريري ونصرالله في صيدا، جنوب لبنان(محمود الزيات/فرانس برس)
+ الخط -
أصبح لبنان بالنسبة للسعودية، تحديداً بعد استقالة رئيس حكومته سعد الحريري، بتشجيع أو طلب سعوديّ، يرقى إلى مرتبة "الدولة العدوة". ليس في المصطلح الأخير سوى محاولة شرح لغوي لكلام وزير الدولة السعودية لشؤون الخليج العربي، ثامر السبهان، مساء الإثنين، بقوله إن السعودية أبلغت الحريري أن الرياض "سوف تعامل الحكومة اللبنانية كأنها حكومة إعلان حرب على المملكة العربية السعودية". إذاً، تعلن القيادة السعودية، بالتقسيط المريح، عن وجهة سياساتها الحربية المقبلة في الإقليم من خلال تصريحات وسلوكيات الثلاثي، ولي العهد محمد بن سلمان ووزير الخارجية عادل الجبير والسبهان إياه، المتخصص في التغريدات الحربية ضد كل من يسميها "أدوات إيران"، وتحديداً حزب الله في لبنان، على موقع "تويتر"، وعلى شاشات التلفزيونات اللبنانية المحلية التي تتفاخر بسرقة تصريح منه هنا ومداخلة هاتفية هناك، منذ واقعة الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، أي استقالة الحريري من الرياض ومن خلال قناة "العربية" بخطاب مكتوب أثار الكثير من الاجتهادات والالتباسات في الشكل والمضمون. 

ومنذ صدور التصريح السبهاني الأخير حول "حكومة إعلان الحرب" في بيروت، لم تتعب محاولات تقدير كيف يمكن لهذا الكلام الكبير أن يترجم. لكن قليلاً من الخبث السياسي جعل كثيرين ينصحون بعدم محاولة فهم النوايا السعودية حيال الخطوات المقبلة إزاء لبنان، لأن القيادة السعودية نفسها ربما لا تعرف ما هي بنود خريطة طريقها إزاء لبنان ــ العدو على ما تثبتها التجارب الكثيرة للدبلوماسية السعودية تجاه عديد الملفات المتصلة بمواجهة إيران في المنطقة، ولبنان في مقدمتها. الأكيد أن السعودية تريد محاربة إيران، لكن المؤكد أكثر هو أنها لا تعرف كيف وبماذا وبأي أدوات، على عكس إيران تماماً، التي تحكم قبضتها بالكامل على الدولة اللبنانية من داخل مؤسساتها كافة، من خلال حزب الله، وتفرض خطوطاً حمراء على ما يسمح بمناقشته في البلد، بالقوة المسلحة (القتال في سورية، القمصان السود، أحداث 7 مايو/أيار 2008، الاستعراضات العسكرية الموسمية في الجنوب وفي العاصمة)، أو بالإرادة الطائفية السياسية (منع انتخاب رئيس إلا ميشال عون، إقفال البلد باعتصام هو أقرب إلى العصيان المدني بعد اغتيال رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري، التسبب باستقالة الحكومة من خلال سحب وزرائها الشيعة في 2011، فرض حظر ضمني على المعارضين السوريين من زيارة لبنان والإقامة فيه طبعاً وتسليم من يخالف الأوامر إلى الأمن السوري...). من هنا ينبع الخوف عند أشد الرافضين لـ"الاحتلال الإيراني" للبنان حتى، لأنهم يدركون كل الإدراك أن السعودية سبق أن تعاطت مع الملف اللبناني كحقل تجارب لسياسات ممكن تطبيقها، منذ سلمت أمره للنظام السوري بموجب اتفاق الطائف الشهير نهاية الحرب الأهلية، مطلع تسعينات القرن الماضي. ولأن العودة إلى الخلف عقدين من الزمن قد لا تفي بالشرح المطلوب، أمكن تذكر كيف أن السعودية رعت، فقط قبل عام من اليوم، وصول حليف حزب الله اللصيق، ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، فردّ الأخير المبادرة لتكون الرياض وجهة أول زيارة رئاسية له.

عدم وجود خطة ولا رؤية ولا استراتيجية سعودية في محاربة إيران و"أدواتها" في لبنان تحديداً، هي من المسلمات في حديث كثيرين في بيروت، من أوساط سياسية وشعبية وإعلامية، أتمَّتِ المجاهرة بها أو كتمانها، لكنها تبقى شعوراً عاماً يبرر الخوف من أي مغامرة غير محسوبة قد تقضي على ما تبقى من استقرار هش وكاذب في المجتمع، الاقتصاد والأمن اللبنانيين، لكنه يبقى أفضل من الخراب الكامل. فماذا يعرض ثامر السبهان على اللبنانيين عندما يخاطبهم مباشرة بعبارة أدبية من نوع "يجب على اللبنانيين جميعاً أن يختاروا بين السلام وبين حزب الشيطان" (حزب الله)؟ هو بهذا الكلام لا يشجعهم على انتخاب أطراف مناوئة لحزب الله على الأرجح في انتخابات مايو/أيار 2018، لأن هذه الانتخابات صارت بحكم المؤجلة بعد استقالة الحريري. ثم إن السعودية لم تفعل شيئاً لتوحيد القوى الرافضة لهيمنة حزب الله في جبهة واحدة، لا بل لم تمانع انفراط عقد قوى 14 آذار منذ سنوات. ولا السعودية ترجمت رفضها لسلاح حزب الله من خلال تعزيز قوة الجيش اللبناني، فألغت قبل عامين منحة المليارات الثلاثة من الدولارات للجيش وفعلت ما يشبه ما فعلته في العراق منذ 2003. سلمت لبنان إلى إيران، مثلما سلمت العراق إلى إيران منذ الخطاب الشهير للملك عبد الله في قمة الرياض عن الاحتلال الأميركي للعراق، والقطيعة التي لم تنتهِ إلا قبل أشهر، مع صدور قرار العودة السعودية من الباب العريض إلى بغداد.

أكثر من ذلك، أبقت السعودية على استراتيجيتها القبلية في لبنان، من خلال توزيع قنوات التواصل مع الحلفاء بين مراكز النفوذ السعودي، فأصبح شائعاً جداً هنا في بيروت القول إن فلاناً من حلفاء الرياض يتواصل مع ولي العهد، وعلتاناً تواصلُهُ مع السفارة، وآخر ارتباطه مع المخابرات والأمن السعوديين، ورابعاً اتصالاته محصورة بالخارجية قافزاً فوق السفارة في بيروت... كل ذلك يحصل على الضد منه في المعسكر الإيراني، حيث المركزية واضحة في التعاطي مع التابعين ومع الحلفاء، والتمويل يأتي من مصدر واحد، والأوامر محصورة بقناة واحدة، إسمها دولة حزب الله وجيشه وإعلامه وأمنه. وأغلب الظن أن يكون الوزير السعودي، السبهان، يعرف هذه التفاصيل تمام المعرفة، وأن يكون على دراية كاملة بأنه لا يعرض على اللبنانيين، بمعادلته الصفرية تلك (اختاروا بين السلام وبين حزب الله)، إلا عرض انتحار: موتوا مجاناً، هذا شأنكم، موتوا إما في مغامرة شعبية ضد حزب الله، في الشارع، أو أنكم ستموتون بضربة عسكرية إسرائيلية مدعومة سعودياً وأميركياً مثلاً. أو أنكم ستموتون في موجة اغتيالات جديدة، أو تموتون جوعاً في حال ضُربت الليرة فعلاً مثلما يتردد في الأوساط المالية والسياسية، رغم التطمينات غير الكافية لحاكم مصرف لبنان عن أنه "لا خوف على الليرة".

ومع العلم التام لثامر السبهان ولمسؤوليه في المملكة بأن الخطوط الفاصلة زالت كلياً في لبنان بين حزب الله والدولة، يكون كلامُهُ حول الآتي المحتمل من الجبهة السعودية، بعد استقالة الحريري، حمّالَ أوجهٍ يمكن إيراد بعض احتمالاتها على الشكل التالي:

عندما يقول السبهان إن "هناك من سوف يردعه (حزب الله) ويجعله يعود إلى كهوفه الموجود فيها في جنوب لبنان"، يحلو لكثيرين ربط الكلام بالعلاقات التي تتجه إلى العلنية بين السعودية وإسرائيل، برعاية أميركية، ليخرج بتفسير سوداوي لهذا التهديد، معناه أن عدواناً إسرائيلياً كثر الحديث عنه في دولة الاحتلال، في طريقه لضرب لبنان من عنوان حزب الله، بشكل يحقق مصلحة ثلاثية أميركية ــ إسرائيلية ــ سعودية ضد إيران. وإن كان عدوان 2006 قد نال مباركة سعودية ضمنية في كلام المسؤولين السعوديين في حينها عن أن المسؤول عن الحرب هو "مغامرات حزب الله غير المسؤولة"، فكيف يمكن أن يكون السعودي اليوم، في عزّ التعبئة السعودية الحربية على نغمات ترامب وبنيامين نتنياهو. وهنا يتذكر كثيرون إحدى تغريدات السبهان نفسه عن ضرورة تشكيل تحالف دولي ضد حزب الله، في كلام يغازل مشاريع دونالد ترامب بنقل الجبهات من "داعش" إلى ضرب إيران، بمسميات مشابهة للحرب ضد الإرهاب، من نوع عاصفة حزم لبنانية، وتحالف دولي خاص بحزب الله...


وعندما يتوعّد السبهان اللبنانيين، في حوارات تلفزيونية لبنانية، بعبارة "انتظروا لتروا ماذا سنفعل"، ربما يكون معنى هذا الكلام خطوات من نوع قطع العلاقات الدبلوماسية مع لبنان، وإغلاق السفارة، ومنع السعوديين من زيارة هذا البلد، وسحب كافة الاستثمارات الموجودة في السوق اللبنانية ومصارفها، كذلك الودائع المالية، وهو ما يُعرف بحزمة "ضرب الليرة". أما في الشق الأمني، فيتخوف كثيرون من أن تشهد شوارع لبنانية حساسة مذهبياً وطائفياً، موجة أعمال استفزازية من طرفي محوري السعودية ــ إيران، يترجم ذلك بحروب أهلية مصغرة بحدود الشوارع، ذلك لأن السعودية تعرف، كما يعرف العالم، أنه لا قوة لبنانية شعبية مسلحة يمكنها اليوم أن تتحرك في وجه حزب الله بجيشه الذي لا يعرف اللبنانيون حجمه وعديده وقوته الحقيقية، بما أن ذلك شأن خاص يعني الحزب وإيران، وعلى اللبنانيين أن يسلّموا به وألا يسألوا حتى عنه.


أما الخشية من افتعال موجة اغتيالات، لطالما اتهم بها حزب الله والنظام السوري، فيبقى وارداً أيضاً في حسابات البعض من ضمن نظرية أن ضرب الاستقرار الأمني وإحداث الفوضى هو أحد طرق إرباك حزب الله وإفقاده توازنه وإبعاد الحلفاء (المسيحيين) عنه لاستفراده، وهو ما يستحيل في لبنان حيث صارت المناطق الصافية مذهبياً، شبه معدومة، تحديداً في عاصمة القرار، بيروت. وبعد هذا كله، يبقى "اللافعل السعودي"، أو الفعل السلبي إن جاز التعبير، وارداً بقوة بدوره. يقوم السيناريو على احتمال منع الرياض مباشرة أي مرشح من الطائفة السنية من الموافقة على تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة سعد الحريري. بالتالي، يكون هذا الخيار عنوان خيار الفراغ، بحجة عدم إعطاء شرعية لحزب الله، بما أن أي حكومة يستحيل أن تتألف من دون مشاركة حزب الله وشريكه "حركة أمل". لا حكومة، يعني لا انتخابات، ولا موازنة، ولا استقرار، ولا أجواء اقتصادية مريحة ولا استثمارات ولا "باريس 4"، وهو خيار تمت تجربته أيضاً لسنة ونصف السنة من دون رئيس جمهورية، من دون أن يحصل شيء إلا تعزيز نفوذ حزب الله وسيطرته على الدولة اللبنانية.

في المحصلة، يستشعر طيف واسع من اللبنانيين، درجة البؤس الذي أصبحوا يعيشونه في تخييرهم بين الانتماء إلى محورَين، سعودي وإيراني، كثيرون جداً يعتبرون أن كليهما لم ينشر إلا الخراب والتسلط والحروب والتخلف وتصدير الكوارث في المنطقة العربية.