لبنانيون انعزاليون

21 يوليو 2019
+ الخط -
في أوج الحرب الأهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، كان يلصق مصطلح "الانعزاليين" بأحزاب اليمين، على غرار حزبي الكتائب والأحرار، من خصومهم بالطبع. ويعني المصطلح، في ما يعنيه، أن اليمين ما هو إلا فئة تتغيّا عزل لبنان عن محيطه العربي والقومي؛ تحت ذرائع طائفية واستعمارية قديمة، والقول إن لبنان ليس مضطرًّا للمشاركة في تحمل عبء القضايا العربية الكبرى، ومن ضمنها القضية الفلسطينية.
آنذاك، حملتنا ظنون القومية على تصديق هذه المقولة، وحصرها بأحزاب اليمين اللبناني فقط، غير أن الحملة الحكومية والشعبية اللبنانية المستعرة ضد اللاجئين السوريين، راهنًا، صدمتنا جميعًا، وبرهنت أن "الانعزالية" صفة لا تقتصر على طرفٍ لبنانيٍّ دون آخر، بل هي ضاربة في متون تفكير واسع في هذا البلد الصغير، بدليل أن فئةً غير يسيرة من الشعب اللبناني تتبنى هذه الحملة "الانكشارية" التي تقودها الحكومة بغالبية أطيافها.
ولو عاد بنا الزمان ردحًا قليلًا، لرأينا خصوم اليمين من يسار وأحزاب طائفية، قد اشتغلوا على فكرة "الانعزالية"؛ فما إن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، وغادرت التنظيمات الفلسطينية أرض لبنان، مودّعة بـ"الأرز"، كما ظنّ محمود درويش، حتى اندلعت حربٌ أخرى ضد المخيمات الفلسطينية، من حركة أمل الشيعية وحلفائها من فلول الجيش اللبناني، وحوصرت تلك المخيمات أيامًا طويلة، ومنع عنها الزاد والماء. ولا تزال الحكومة اللبنانية تمارس ضغوطًا مهولة على اللاجئين الفلسطينيين، في العمل والتعليم والتنقل، وتسعى إلى "عزل" المخيمات.
واليوم، أزف موعد اللاجئين السوريين؛ ليصبحوا من ضحايا "الانعزال" الجدد، وليعيشوا أسوأ ضروب الامتهان والتضييق على معيشتهم وحياتهم، في بلدٍ لا يحتمل بعض من فيه الآخر إلا إذا كان "سائحًا" منتفخ الجيوب أو مستثمرًا، أو مؤيدًا لفصيل دون آخر، شرط أن يعيش في منطقة نفوذ هذا الفصيل، ويتجنب مغامرة الخروج منها ولو لشراء رغيف خبز.
رب قائل إن اللاجئ عمومًا، هو ضيف ثقيل الظل في بلدان اللجوء. وفي هذه المقولة بعض الصواب، نظرًا إلى الأعباء اللوجستية والاقتصادية التي تترتب من جراء تأمينهم بالغذاء والدواء والإقامة والتعليم، وغير ذلك، غير أن الأمور لا تصل إلى حدّ امتهان الكرامات والاستعباد، بل إن من دول اللجوء من تعمل على دمج اللاجئين بمجتمعاتها، وجعلهم جزءًا عضويًّا من شعوبها، فتتيح لهم فرص التعليم والعمل والجنسية، ومنها دول عربية، على غرار الأردن الذي استقبل أضعاف ما استقبله لبنان من اللاجئين السوريين، وتحمل أعباءً كبيرة من جرّاء ذلك. وللحق، لم تراوده فكرة "الانعزال" يومًا، بل يعيش اللاجئ على أرضه بكامل كرامته، وينافس أبناء البلد على وظائفهم ومساكنهم، من دون أن يتبرّم الأردنيون منهم، أو يطاردوهم في الشوارع، كما الذين يحشِّدون في لبنان ويؤلبون على اللاجئين السوريين، ويمتهنونهم ويضيقون عليهم الخناق.
في المقابل، على اللبنانيين المسكونين بفكرة "الانعزال" أن يدركوا أن بلدهم محاط إحاطة السوار بالمعصم بالدولة السورية والسوريين، وأنه لا مفرّ لهم من الحفاظ على حبل الودّ مع محيطهم العربي والقومي، وأن الشعب السوريّ من أكثر الشعوب العربية تمسكًا بأرضه، لولا أن جوْر طغاته فاق ما تحتمله الجبال، وهو الجوْر الذي يعرفه اللبنانيون أنفسهم يوم كان لبنان مرتعًا لنفوذ حافظ الأسد وزبانيته في الثمانينيات، فلماذا يكون الغريب أرحم باللاجئين السوريين من قريبه العربي؟ أيكون السبب تكريسًا للقُطرية التي تدخل "الانعزالية" في لبّها، أم لأن الشخصية العربية لم تزل تحمل بذرتها البدوية التي تميل إلى العزلة بطبعها، ورفض الآخر إلا إذا كان عبدًا أو مسبيًّا لا يصلح إلا لأعمال السخرة؟
سؤال بحجم قشرة القطرية الهشّة التي تخدعنا صلابتها نحن العرب، حتى يهشّمها الغازي ببسطاره العسكري، فنكتشف كم كنا واهمين، وكم كنا متحاملين على أبناء جلدتنا.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.