لا ضرر ولا ضرار

07 ابريل 2017
+ الخط -
إن كنّا جميعاً نتأفف، فما مصدر أو مصادر تأففنا: هل هو شخص قريب أم بعيد؟ جار أم غريب؟ عدو أم صديق؟ يقطن المسكن أم يجاورك في العمل؟ رئيس أم مرؤوس؟
يستحيل عقلاً أن نتأفف جميعاً، ويشاركنا الكل شعورنا بالتأفف، فلا بدّ من وجود جانٍ ومجنى عليه.
إنه لمشهد عبثي وحوار هستيري، تسمع فيه الكل يشتكي مع هجوم الحر، من روائح كريهة وانبعاثات تصيب النفس بالغثيان، فتتأوه صارخة بمفردة لا مناص منها، وهي: إف. .. لكن من دون جدوى، أما النفس الحليمة فتراها تكظم غيظها وتكتم أوجاعها، فلسان الحال قد يغني عَن لسان المقال.
ينهانا الله تعالى عن إساءة الأدب في مخاطبة الوالدين، فيقول سبحانه: "ولا تقل لهما أفٍّ"، وأف لفظة تفيد الضيق والضجر، لاحظ وجود الضمة على الألف، لكن العامية المصرية جعلتها كسرة تحت الألف، غير أنّ إظهار الضيق والتأفف مع غير الوالدين أمر آخر، فقد يكون شأناً يومياً عادياً بين المتزوجين أو الزملاء المتشاكسين.
في السينما المصرية، كانت أشهر "إف"، للراحل توفيق الدقن في فيلم "الشيطان يعظ" فهل صدرت عنه نتيجة سخط من ارتفاع أسعار سلع أساسية؟ أم نتيجة اختلال موازين اجتماعية؟ أم نتيجة صراعات سياسية لتدخلات قوى خارجية، سواء إقليمية أو دولية؟
لا أعرف على وجه اليقين، فللدراما إيقاعها المبني على صراع قوى الشر مع الخير، ولها دلالات ومستويات للفهم والإستيعاب والتلّقي، وهنا يكمن جمال الفن وعمقه غير أنّ القدر المتيّقن المفهوم الذي لا مراء فيه بالنسبة لي على الأقل هو أنّ من تفوه بـ "الإف" كان خارجا تواً من جوال مغلق عليه بإحكام، كاد أن يزهق روحه، وقد كان مرتعاً للبراغيث والحشرات المؤذية.
ليس محرك العبارة بواعث سياسية ولا ضغوط اقتصادية، ولا هجمات ثقافية، ولا نكبات اجتماعية، ولا تدخلات إمبريالية تتخذ من مؤسسات التمويل الدولية مخالب قط لتخريب العملات المحلية وزيادة عجز الموازنات الوطنية وإفقار الشعوب وتجويعها لتركيع الحكومات وكسر الإرادات، مع عدم وجود القوة الشرائية اللازمة للاستهلاكات، في ظلّ تكدّس السلع والخدمات، لتمتلأ المخازن والمحلات ببضائع الكساد التضخمي.
وإنما محركها (إف) وسببها الروائح المنبعثة نتيجة عدم الاهتمام بالنظافة، جرّاء عدم مقدرة المستهلك على اقتناء مزيلات العرق التي قد تكبّده مالاً لا يقوى عليه، فيستغني عنها مستغلاً نقوده في طعام أو علاج، لنقع بين مطرقة الفقر وسندان الروائح. لذا، كان لا بد من حل عاجل وسلاح ناجع، قد يرضي كلّ الأطراف، وهو استخدام المشبك الخشبي، بوضعه على الأنف، منعاً للضرر وتجنباً للولوج في مسائل اقتصادية شائكة تستعصي على الحلول في الأجل المنظور! وتحقيقا للقول المأثور"لا ضرر ولاضرار".
وإذا كان الفنان المحبوس في الجوال سالف الذكر، يصرخ في نهاية الفيلم مستنكراً: "إذا كان الجميع يريد أن يصبح فتوة، فمن ذَا الذي سنقوم بضربه؟".
نحن أيضا نستغرب متسائلين: إذا كان الجميع يشكو من الروائح غير المحبّبة، فمن هم أصحاب الروائح التي تدفعنا إلى المشبك الخشبي؟
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
طارق البرديسي (مصر)
طارق البرديسي (مصر)