لا حياة لمن تنادي

15 يونيو 2016
+ الخط -
وافق الاتحاد الأوروبي على منح تونس قرضاً بقيمة 500 مليون يورو، وكان صندوق النقد الدولي قد وافق على برنامج قروض لتونس، مدّته أربع سنوات، بقيمة 2,8 مليار دولار، لدعم الإصلاحات المالية والسياسية. هذه القروض مؤشر على (ثقة) الغرب في مسار التحوّل الديمقراطي الجاري في بلاد الزيتون، وهي، وإن كانت غير كافية، فإنها تعكس ترحيباً أوروبياً وأميركياً بهذا النموذج الناجح لانتفاضات الربيع العربي، وعرفت انتكاسات كبيرة في مصر وليبيا واليمن وسورية.
في وقتٍ تصب بعض دول الخليج العربي مليارات الدولارات في مصر لدعم الانقلاب ضد الحكم المدني، ولتثبيت قدمي الجنرال الفاشل عبد الفتاح السيسي ضد أي تحوّل ديمقراطي، يدعم الاتحاد الأوروبي مسيرة أصغر بلد مغاربي، لعبور مرحلة الخطر نحو تثبيت حكم المؤسسات، والوفاق بين كل الأطياف بشأن أدوات إدارة الصراع على السلطة والثروة بطريقةٍ حضاريةٍ وديمقراطية. هنا، نحن أمام نمطين من التفكير والممارسة السياسية؛ عربي يرى الاستبداد حلاً للقضاء على صحوة الشعوب، وغربي يرى الديمقراطية الحل لمجابهة التطرّف والاستبداد والإرهاب.
هناك اليوم تجربتان عربيتان تحت المجهر الدولي. الأولى تونس التي أحرزت تقدّماً مهماً، على الرغم من الصعوبات الاقتصادية والأمنية، لكنها نجحت في وضع دستور نموذجي، ونظام حكم برلماني، وأجرت أكثر من انتخابات شفافة ونزيهة نسبياً بعد فرار الجنرال بن علي. هذه التجربة موضوعة اليوم في المختبر، باعتبارها نموذجاً واعداً لتحوّل ديمقراطي سلمي في منطقةٍ تغلي بالاضطرابات والانقسامات، وتجرّ تراثاً استبدادياً قاتلاً، زرع أمراضاً كثيرة، ليس فقط في جهاز الدولة، بل وفي قسطٍ كبير من نخبة المجتمع. الثانية، المغرب، باعتباره أعلن أجندة إصلاحاتٍ مهمة، وتفاعل، بطريقته، مع انتفاضات الربيع العربي، حيث ركب فوقها، ولم يواجهها بالدم والنار، كما فعل القذافي والأسد وصالح، وإذا كان العالم لا يضع المغرب في مستوى تونس، من حيث قوة المحرّك الديمقراطي فيه، فإن التجربة المغربية، مع ذلك، موضوعة في مختبر التجربة، وينظر العالم إليها حالةً سياسية تمتلك حظوظاً في أن تصير نموذجاً ناجحاً لتحوّل ديمقراطي هادئ، في ظل ملكيةٍ عصريةٍ ومنفتحةٍ، لكنه نموذج يواجه تحدّياتٍ من داخله أكثر مما يواجه من خارجه، لأن تياراً قوياً في جهاز الدولة يريد أن يجعل من الانفتاح الديمقراطي الذي انطلق سنة 2011 مجرّد (تكتيك) للالتفاف على غليان الشارع وخروج الشباب للمطالبة بالإصلاحات.
ويسوّق هذا التيار فكرةً مدمّرةً تقول إن الإصلاحات في البلد والانتخابات المفتوحة ستحمل "الغول الإسلامي" إلى السلطة، وليس فقط إلى الحكومة، ويحمل مشروعاً مغايراً للمشروع الوطني المغربي، وكل التغييرات التي أدخلها رئيس الحكومة الإسلامي، عبد الإله بنكيران، على حزبه، للخروج من عباءة الحزب الأصولي إلى بذلة الحزب المحافظ، "عمليات تجميل" خادعة، والسلطة لو حكّت جلد بنكيران وأصحابه سترى الوجه الخفي لهذا الحزب، والحل الوحيد الذي سيجنّب الملكية مخاطر المواجهة مع حزبٍ مهيمنٍ على الساحة السياسية هو النفخ في حزب الدولة (الأصالة والمعاصرة)، وهندسة الانتخابات، حتى لا تفرز إرادة الأمة، وإرجاع دور وزارة الداخلية التي تفصّل مقاعد البرلمان على إرادة الحاكمين، قبل الحملة الانتخابية.
هذا الرأي موجود في جهاز الدولة المغربية، ويسوّق نفسه، لكن مشروعه قائم على الخوف، ولا يجيب على الأسئلة الأكثر إلحاحاً من الخوف، مثل: ما هي كلفة التلاعب بإدارة الناس، إذا جرت صناعة أغلبية غير حقيقية يوم السابع من أكتوبر؟ كيف ستكون صورة البلاد في الخارج، إذا جرى إقفال القوس الذي فتح قبل خمس سنوات، ورجعنا إلى مشروع السلطوية الناعمة؟
فشلت انتفاضات الشباب العربي في مصر وليبيا واليمن وسورية، ليس لأن الديمقراطية ممنوعةٌ من الصرف في منطقتنا، بل لأن الفساد والاستبداد في أنظمة هذه البلدان وصل إلى مستوىً لم تعد فيه قادرةً على إصلاح نفسها بنفسها. كانت انتفاضات الربيع العربي إصلاحية، ولم تكن ثورية جاءت من خارج الأنظمة لإصلاحها، وليس لإسقاطها... كانت وظيفة الشباب أن يطرقوا باب الأنظمة الفاسدة والمستبدّة، ليقولوا لها كفى... لكنْ، كما قال الشاعر قديماً: لقد أسمعتَ لو ناديت حياً. ولكن، لا حياةَ لمن تنادي.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.